الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132].
أيها الناس، لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مناقب عدة، فقد عدها النبي من النساء الكاملات وهن قلائل، وكان يتعاهد صاحباتها بالهدايا، ويكثر الثناء عليها حتى غارت منها عائشة رضي الله عنها.
ويكفي في فضلها أن الله تعالى أرسل سلامه لها مع جبريل، وبلغه جبريل للنبي ؛ ففي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: أتى جِبْرِيلُ النبي فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذه خَدِيجَةُ قد أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فيه إِدَامٌ أو طَعَامٌ أو شَرَابٌ، فإذا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عليها السَّلَامَ من رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ في الْجَنَّةِ من قَصَبٍ لَا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ. رواه الشيخان.
هذه المرأة العظيمة التي ارتبط ذكرها بذكر الوحي والبعثة حين كانت تثبت النبي وتبشره، هذه المرأة الطاهرة العفيفة الحيية الستِيرة حتى لقبت بالطاهرة في الجاهلية فزادت بالإسلام شرفا إلى شرفها وطهارة إلى طهارتها، هذه المرأة العظيمة في الإسلام انبرى لفيف من الجاهلين والجاهلات لتلويث سمعتها، واجتمعوا على تشويه صورتها، وتدنيس سيرتها، بخلع اسمها الطاهر على مركز للتغريب والتخريب والإفساد، ومحادة الله تعالى في أحكامه وتزوير شريعته.
ولئن كان الروافض قبل أشهر قد أظهروا الطعن في عائشة رضي الله عنها فإن الليبراليين حاولوا تشويه سمعة خديجة رضي الله عنها، والرافضة والليبراليون قريب بعضهم من بعض قرب اليهود والنصارى من الرافضة الفرس.
لقد أرادوا خداع العامة بتصوير خديجة رضي الله عنها سيدة أعمال تخرج في تجارتها، وتباشر أعمالها خارج منزلها، وتزاحم الرجال في ميادينهم، ويعلنون باسم الطاهرة خديجة التمرد على الحجاب وعلى قوامة الرجل على المرأة وعلى إسقاط المحرم في السفر، وباسم خديجة يدعون إلى السفور والاختلاط ومزاحمة الرجال، فما أكثر كذبهم! وما أعظم فريتهم على بيت النبوة!
أوَلو اختاروا غير خديجة، تلك المرأة القارّة في بيتها التي لم يُعرف لها خروج مستمر منه، ولا مزاحمة للرجال، ولا غشيان للأسواق، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، تلك المرأة التي ما كانت تمنعها الجاهلية أن تخرج في تجارتها للشام مع غلامها وخدمها وهي السيدة التي لا يوطأ لها على طرف، ولا يكشف لها كنف؟!
أولو اختاروا غير خديجة التي كانت تبذل من مالها للرجال ليديروا تجارتها لكي تقر هي في منزلها؟! والله ما منعها من غشيان أعمال الرجال إلا طهرها وعفتها وحياؤها، ولقد كانت توكل محارمها من الرجال لشراء حاجاتها كما اشترى لها ابن أخيها حكيم بن حزام مولاها زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم.
وجبريل عليه السلام بشرها ببيت في الجنة ولم يبشرها بقصر أو بستان أو نحوه، فاستخرج العلماء من ذلك نكتة لطيفة ذكرها السهيلي رحمه الله تعالى فقال: "لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث فصارت ربة بيت في الإسلام منفردة به، لم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث فيه رسول الله بيت في الإسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها غيرها".
فهل يصح أن يختار أذناب الغرب خديجة مثالا للتاجرة ومزاحمة الرجال وتحرير المرأة من أحكام الشريعة وهي التي قرّت في بيتها قبل الإسلام وبعده، وأوكلت أمر تجارتها ومالها للرجال؟! نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى وعمى البصيرة.
ولما تزوجت خديجة رضي الله عنها رسول الله كان قبل البعثة يتعبد الليالي ذوات العدد في غار حراء، وما نقل أن خديجة كانت تخرج معه، أو تبحث عنه إذا استبطأته، وهي الزوجة المحبة التي سعت إليه حتى حظيت به، بل كانت تنتظره في بيتها حتى يرجع إليها. ومن قرأ أحاديث بدء الوحي تبين له ذلك.
كذبوا -ورب خديجة- على خديجة، فما حضرت منتديات الرجال، ولا غشت أسواقهم، ولا شاركت في مؤتمراتهم، بل أشرف شيء وهو دعوة الخلق إلى الحق تركته من أجل القرار في البيت، فما خرجت مع النبي لتدعو الناس، بل كانت تثبته وتسليه وتصبره وهي في منزله، وتوفر له السكن والطمأنينة والراحة في مخدعه.
لم تكن خديجة كما حاولوا تصويرها سيدة أعمال، وإنما كانت ربة منزل، كانت سيدة أشرف منزل، فحظيت بشرف أن تكون سيدة النساء، وأفضل أمهات المؤمنين.
هذا التشويه المتعمد لهذه المرأة العظيمة ماذا يريد منه أهل الجهل والهوى من أتباع الغرب الشهواني؟! إنهم يريدون تسويق الرذيلة باستغلال أسماء فضليات النساء اللائي لا يختلف في فضلهن، وتمرير ثقافة التغريب والتخريب عبر بوابة مكتوب عليها أسماؤهن.
لقد كان المسوقون للمشروع التغريبي خلال عقود مضت يدعون إليه بالطعن المباشر في أحكام الشريعة، ويفصحون عن وجهتهم التي يمموها شطر الغرب، ويشيدون بأعلام المتحررين والمتحررات والثائرين على الدين والثائرات، لكن تسويق المشروع التغريبي بهذه الطريقة مُني بفشل ذريع؛ لأن عموم المسلمين انحازوا لدينهم، وارتضوا شريعتهم، وأقبلوا على علمائهم ودعاتهم، وكرهوا فساد الغربيين وانحطاطهم، ولم يصدقوا الكذبة المسوقين لمشروعاتهم، فتغير تكتيك الغربيين وأذنابهم في بلاد العرب، وتحولوا من الطعن المباشر في الإسلام ورفض أحكامه إلى إعادة قراءة نصوصه وتفسيرها تفسيرا غربيا، واستخراج شذوذ الأقوال وغريب الآراء ليضرب بها محكم التنزيل، والاستعانة بمن قلَّ حظهم من العلم والدين ممن اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، ممن يكتمون ما أنزل الله تعالى من البينات والهدى، ممن يتلاعبون بالمحكم من الآيات؛ لينتعلهم الليبراليون ويخرجوهم بمشالحهم ولحاهم ذليلين حقيرين مهانين مقادين يقودهم فسقة الناس وجهلتهم جنبا إلى جنب مع السافرات المتبرجات مغتربات العقول والأفكار؛ ليبيحوا لهن ما حرم الله تعالى عليهن، ويقبضوا ثمنا بخسا على تزويرهم وإضلالهم للناس، والحمد لله الذي أسقطهم من عيون الخلق، ومن هان على الله تعالى هانت عليه شريعة الله تعالى فباعها بثمن بخس، وبذل كرامته للفساق فغشيه الذل وإن نال شيئا من جاه ومال وشهرة وإعلام، وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18].
اللهم احفظ بلادنا ونساءنا وبناتنا من شر المفسدين والمفسدات، وردهم على أعقابهم خاسرين، اللهم انصر عبادك المحتسبين، واخذل المنافقين يا رب العالمين...
|