أما بعد: عباد الله، إن من سنن الله في هذا الكون منذ بدء الخلق إلى يومنا استمرار الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، والحرب سجال فمرة لأهل الحق ومرة لأهل الباطل، وليعلم أن هذه الحرب تأخذ أشكالا وصورًا عدة أظهرها وأشهرها وأبرزها الصراع العسكري الذي يعرفه الخاص والعام.
أيها المؤمنون، إن حديثنا اليوم عن نوع من أنواع الصراع بين الحق والباطل، نوع من الصراع خطير وأثره عظيم والخسارة في هذا الصراع كبيرة لا يعلم مداها إلا الله، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة: 109]، وقال سبحانه: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89]. إنه صراع المبادئ والحرب الثقافية التي تستهدف مسلّمات الأمة وأصولها وعقائدها والتي يقودها الكفار بإيعاز وتخطيط من المنافقين والزنادقة المقيمين في ديار أهل الإسلام.
أيها المسلمون، لقد بدأت حرب المبادئ وحرب الثقافة والحرب على الدين على بلاد المسلمين منذ أمد بعيد، ولكنه اليومَ يأخذُ شكلًا وبعدًا آخر، إن صراعهم اليوم معنا صريح وواضح دون إسرار أو مواربة يعلن في كل وسائل الإعلام، فها هي أمريكا تعلن أنها ما أتت ولا أجلبت بخيلها ورجلها إلا لتغير ثقافة الأمة ومناهجها التي تزعم ولا غرابة أنها مناهج تفرخ الإرهاب والإرهابيين، ولكن العجب أن يُعلَنَ هذا الأمر ويُخَطِطَ له أناس يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسماء المسلمين يرددون كالببغاوات ما قاله أسيادهم الذين تربوا في أحضانهم والذين شرقوا بهذه الدعوة المباركة التي عمت السهل والوعر والبر والبحر ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أيها المؤمنون، الحديث في هذا الأمر يفتت الأكباد وينكأ الجروح ويزيد في الآلام، الأمة في هذا الوقت العصيب وهي تُحارَبُ وتُحاصَرُ وتُستهدَفُ في كل الميادين السياسيةِ والاقتصاديةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ، ونبتلى في هذه الأيام بمن أعلنوا الحرب الثقافية في وسائل إعلامنا دون حياء ولا وازع من دين أو ضمير، فلم يرعوا حرمة لكتاب الله، فتكلموا فيه وفسروه بلا علم، وتجرؤوا على سنة المصطفى ، وعدوا التمسك بها ونشرها وإظهارها تشددا، وتنقصوا صحابة رسول الله ، وتكلموا فيما شجر بينهم وقد نهينا عن ذلك، ثم نالوا من علماء الأمة ومراجعها وقت الأزمات والذين نهتدي بهديهم ونسير على منهجهم، ولمزوا فتاواهم التي أصدروها نصحًا وبيانًا للأمة حتى لا تضل، وختموا حربهم -وإن شئت قل: عبثهم ولغوهم الباطل- بوصم من تمسك بالمعتقد الصحيح وبما كان عليه سلفنا الصالح بأنهم متطرفون وإرهابيون، فاللهم إنا نبرأ إليك مما قالوا، واللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين.
ولنا مع هذه البرامج التي تتابعت على قلوب الأمة كالسهام الحارقة والنار الكاوية والتي أقضت مضاجع كل من فيه حمية ونخوة على دين الأمة ومبادئها بل كل من فيه حمية لبلده وثقافته وعاداته، لنا مع هذه البرامج عدة وقفات:
الوقفة الأولى: أن الحرب على الدين والثقافة والمبادئ أعظمُ خطرًا وأكثرُ ضررًا، لئن خسرنا في معاركنا العسكرية الرجال والأموال وحتى الديار فإننا نكسب من ورائها القوة الإيمانية فتحيا شعيرة الجهاد والقتال وتتربى الأمة على خشونة العيش وتترك الترف وتصبح أمة يهابها الأعداء، ونكسب القوة في التمسك بأصولنا ومبادئنا وثقافتنا لأننا نشعر بالتحدي، ويزداد الكره والبغض لعدونا، وتحيا في قلوبنا المعاني والعبادات التي يريدها الله منا، كالبراءة من الشرك وأهله، والتي في مطلع هذه الحرب الثقافية يحاول رقيع متعالم متطاول ظهر في إحدى القنوات وتكلم بكل سفاهة وقلة علم وذهاب حياء عن مقرر التوحيد الذي يدرس في مناهجنا، وبدأ يقدح في أصول الأمة ومعتقداتها، وكأن مشكلتنا وسبب تخلفنا وسبب ضعفنا أمام عدونا هو أننا نعلم أبناءنا التوحيد، وما علم هؤلاء أن التوحيد هو سر نصر الأمة وسبب تمكينها على عدوها، واسمعوا يا مسلمون يا من تؤمنون بكتاب ربكم ماذا يقول الله عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55] تدبر قوله: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الشرط الذي به ننصر تحقيق التوحيد والبعد عن الشرك ووسائله، بل البعد عن أي شرك ولو كان شيئًا يسيرًا، ويتعجب الإنسان كيف يجرؤ أمثال هؤلاء في بلد التوحيد ومهبط الوحي وبلاد الحرمين أن يقولوا ما قالوه، ولكن لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
الوقفة الثانية: أن الحملة التي صرحت بها أمريكا وبدأ تنفيذها مباشرة بكل غباء وبشكل مفضوح بعض من ينتسب للإسلام في بلاد المسلمين ركزت في حملتها على أعظم أمر يؤثر في كيان الأمة وثقافتها وهويتها ودينها، ألا وهو مناهج التعليم والقدح في رموز العلم، وهذا يذكرنا بمنهج الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وأعني الحملات الثقافية التي قام بها الاستعمار كما في مصر وهي أبرز وأعظم نموذج لذلك، فإن مصر تعرضت لاستعمار فرنسي واستعمار إنجليزي، فأما الاستعمار الفرنسي الذي قاد حملته نابليون والذي ركز على الناحية الثقافية والعلمية بعد فشله عسكريا وخروجه من مصر مهزوما لأن الأمة المسلمة أبية لا ترضى بالظلم ولا بالحيف، وقد أدرك هذه الحقيقة الصليبيون منذ أن فشلت حملاتهم العسكرية، فاتجهوا إلى الغزو الثقافي، وجعلوا أناسا من متعلميهم يقومون بهذه المهمة، وجعلوهم يتعلمون لغة ودين الأمة وثقافتها حتى يكونوا عونا لهم في حربهم على المسلمين، وقد تم في بعض المواطن ما أرادوا، وهذه الفئة التي تعلمت وعرفت بالمستشرقين نسبة إلى تعلمهم علوم الشرقيين وهم المسلمون والعرب على وجه الخصوص، هذه الفئة ألفت وصنفت الكتب التي تشكك في الإسلام ونبي الإسلام والقرآن وسائر أصوله، وهي التي مهدت للاستعمار الذي احتل ديار المسلمين، فنابليون لما قدم لمصر غازيا كان في مُقدَّم حملته لما دخل مصر هؤلاء المستشرقون الذين درسوا على يد علماء مصر أكثر من عشرين سنة، كانوا يدلونه على علماء البلد الذي درسوا فيه وعلى أماكن التعليم المؤثرة ومداخل البلد ومخارجه، وكانوا هم الذين يشيرون عليه بكل ما فيه ضرر على ثقافة الأمة ودينها.
والحملة اليوم تتكرر، فأمريكا تعلم أن الحرب العسكرية لوحدها لن تؤتي ثمارها التي يريدون، وخاصة أن من أهم أهدافها في هذه الحرب تحقيق الأمن لإسرائيل، وكيف يتم الأمن وشعوب المنطقة تكن البغض والعداء لهم ولليهود؟! ولهذا كان لا بد مع الحملة العسكرية من حملة ثقافية يضع معالمها الصليبيون، وينفذها من فُتِنَ بهم من أبناء جلدتنا الذين سوف يخلد التاريخ أنهم خانوا أمتهم وباعوا دينهم ووقفوا مع عدوهم ضد المسلمين.
ونعود مرة أخرى لمصر ونقول: لما قام أهل مصر بالثورة على الفرنسيين الغزاة وطردوهم أوصى نابليون من تولى حكم مصر ممن كان مواليًا له بأن يبعث مجموعة من المتعلمين إلى فرنسا ليتربوا على أعينهم وعلى ثقافة فرنسا، ومن ثم يعودون ويتسنموا المناصب العلمية وينشروا الثقافة الفرنسية، وبهذا لن تقوم قائمة لأهل الإسلام لأن سر قوتهم وتفوقهم هو تمسكهم بدينهم، وهذا هو الذي أدركه الأعداء، وقد تخرج من فرنسا مجموعة من المتعلمين وعلى رأسهم الذي أفسد مصر وثقافتها رجل يقال له: رفاعة الطهطاوي، والذي يمجد الآن في بعض وسائل الإعلام وبعض وسائل التعليم في العالم العربي. ثم جاء الاستعمار الإنجليزي وجعل المسؤول عن التعليم والمناهج رجلا من بني جلدتهم يدعى دنلوب، وما أدراك ما أحدث وما مسخ من هوية الأمة وثقافتها في مصر!
الوقفة الثالثة: إن الحل الذي يصد هذه الهجمات الظالمة على ثقافتنا ومبادئنا هو التمسك بالدين ظاهرا وباطنا ونشر العلم الصحيح من الكتاب والسنة وتربية النشء في البيوت والمدارس ومدارس التحفيظ ومن خلال الإعلام، والتربية على الإسلام وعلى تعاليم الإسلام وعلى عقيدة أهل الإسلام وثقافة أهل الإسلام، بل على الأمة كلها أن تتربى على هذه المبادئ كالدعوة إلى توحيد الله في العبادة والعمل والاتباع والطاعة وأن يعظم أمر الله وأمر رسوله وأن تربى الأمة على بغض أي عدو لله ولرسوله سواء كانوا يهودا أم نصارى أم علمانيين أم ملاحدة سواء كانوا عربا أو عجما.
وكذلك لا بد من الإنكار على هؤلاء على قدر الاستطاعة، ولنتسابق في نيل الشرف في الدفاع عن دين الله وعن سنة رسوله والدفاع عن عقيدة سلف الأمة، فإن هذا لون عظيم من ألوان الجهاد وهو جهاد خواص الأمة وأنبياء الله، ألا وهو الجهاد بالبيان ونصح الأمة وكشف مخططات الأعداء والدفاع عن حرمات الدين كما قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73]، وقال سبحانه: فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52].
الوقفة الرابعة: الحذر من التشكيك في بعض أصول الأمة وسر قوتها وسر تمكينها وسر تفوقها على أعدائها، والتي حاول هؤلاء الأغمار الضعفاء أن يشككوا فيها مثل: الجهاد في سبيل الله أو التمسك بالمعتقد الصحيح الذي كان عليه سلف الأمة أو الدعوة إلى التوحيد الخالص أو الدعوة إلى موالاة الكفار وعد من عاداهم مخالفا للصواب.
وليعلم -أيها المسلمون- أن الله عز وجل قد قال في محكم التنزيل: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190]، وقال أيضا: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة: 191]، وقال سبحانه: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة: 191]، وقال سبحانه: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]، وقال سبحانه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123]، وقال : ((الجهاد ماض إلى يوم القيامة))، وجاء عنه أن الجهاد ذروة سنام الأمة.
وليعلم أن الله خاطب المؤمنين بخطاب صريح واضح لا لبس فيه ولا غموض فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1]، وصرح بالأعداء في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51].
ونصيحة إلى المفتونين والمنخدعين بأعداء الله بأن يقرؤوا القرآن ولو شيئا يسيرا كل يوم لأن القرآن مليء ببيان خطر النصارى واليهود ومصرح بتكفيرهم فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73]، بل مصرح بحقيقة تريحهم لو يعقلون، ولو علموا هذه الحقيقة ما تحمسوا ولا تقربوا ولا تزلفوا لأعداء الله ليرضوا عنهم، إن هذه الحقيقة أن العدو لن يرضى إلا بأن ننسلخ من ديننا ونتابعهم على كفره فقال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120].
الوقفة الخامسة: أن هذه الحملة مقدمة وطليعة لتغيير ثقافي يريده الأعداء في بلاد المسلمين، فالله الله يا علماء المسلمين يا طلاب العلم، بل علينا نحن جميعا الآباء والمدرسون والإعلاميون أن نبذل النصيحة ونحمي بيضة الإسلام وندافع عن معتقداتنا في كل مجال بقدر ما نستطيع، ولنحذر من الغفلة والتساهل وعدم البذل والتضحية، فإن الضرر يلحق بالجميع. فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلنا.
الوقفة السادسة: لا شك أن استتباب الأمن مطلب الجميع والكل يدعو إليه، والعمل بكل الأسباب المؤدية إليه، وإن ما يقوم به هؤلاء السفهاء في بعض وسائل الإعلام من هجمة على مناهج التعليم وعلى عقيدة الأمة وعلماء الأمة مما يسبب زعزعة الأمن، فكما تقدم الله عز وجل اشترط للتمكين للأمة والنصر والأمن بأن توحد الله، وهؤلاء يدعون إلى محاربة الموحدين وكل من يدعو إلى التوحيد ومحاربة مناهج التوحيد. بل إن الله عز وجل قد ذكر أن التوحيد والإيمان من أعظم أسباب الأمن فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، والظلم هو الشرك، فمن وحد الله وآمن به ولم يشرك به شيئا حصل له الأمن في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|