أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأخوة في الدين تعلو الأخوة في النسب، فالله أمر بالمؤاخاة بين المؤمنين والمسلمين، ولو اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم، فقال تعالى: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
وأمر بمعاداة الكافرين ولو تقاربت أنسابهم، فقال تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوٰنَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَـٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [التوبة:23].
ولهذه الأخوة بين المسلمين والمؤمنين حقوق عظيمة وثمرات كريمة قد بينها الله ورسوله في الكتاب والسنة، تجب مراعاتها والقيام بها، ولا يجوز إهمالها والتهاون بها.
ومن هذه الحقوق والثمرات وجوب الإصلاح بين المسلمين عندما يحصل بينهم اختلاف ونزاع، أو تظهر بينهم عداوة وقطيعة، قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىء إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10].
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تعظيم بعضهم لحرمات بعض، وعدم تنقص بعضهم لبعض، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَـٰبِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [الحجرات:11].
ينهى سبحانه المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن سخرية بعضهم من بعض رجالا ونساء، فربما يكون المسخور منه خيراً من الساخر في الدنيا والآخرة، والسخرية لا تصدر إلا من ناقص. ونهى سبحانه عن اللمز، وهو الطعن في حق المسلم، وعن التنابز بالألقاب، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به، واللقب ما يسوء الشخص سماعه.
قال بعض المفسرين، ومنه قول: يا فاسق، يا كلب، يا حمار،.. و قد سمى الله السخرية واللمز، والتنابز بالألقاب فسوقاً، مما يدل على قبح ذلك وشناعته ووجوب الابتعاد عنه.
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تجنب إساءة الظن فيما بينهم، والتجسس من بعضهم على بعض، واغتياب بعضهم لبعض، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وذلك بأن يظن بأهل الخير شراً وَلاَ تَجَسَّسُواْ [الحجرات:12]. والتجسس هو البحث عن عيوب الناس، نهى الله عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [الحجرات:12].
وفسر النبي الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره، والغيبة محرمة بالإجماع تحريما شديدا. وقد شبهها الله بأكل اللحم من الإنسان الميت، فقال سبحانه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12].
أي: كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوا ذاك شرعا، فإن عقوبته أشد من هذا ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، والتعاون على تحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم. قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وقال النبي : ((مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم، وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
فالمسلم يفرح لفرح أخيه المسلم ويسره ما يسره، ويتألم لألم أخيه...
ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التناصح بين المسلمين والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، قال تعالى: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وقال النبي : ((الدين النصيحة)) ثلاث مرات، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)).
ومن حقوق الأخوة الإسلامية والإيمانية: أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه. كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، والمراد المحبة الدينية لا المحبة البشرية، فإن بعض النفوس البشرية قد تحب الشر.
فالواجب على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب من الخير والنفع لنفسه، ومن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه كان حسودا، والحسد مذموم.
ومن حقوق الأخوة في الإيمان والإسلام: عدم الغش والخديعة للمسلمين قال : ((من غشنا فليس منا))، ومن ذلك الغش في البيع والشراء.
فإن كثيرا من الناس اليوم اتخذوا البيع والشراء وسيلة احتيال يحتالون بهما للاستيلاء على أموال الناس بالكذب والخداع والغش.
عن حكيم بن حزام : أن رسول الله قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ويمحقا بركة بيعهما، واليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وعن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أنه خرج مع رسول الله إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون فقال: ((يا معشر التجار))، فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق))، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، وابن حبان في (صحيحه)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن أبي ذر عن النبي قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرا ت، فقلت: خابوا وخسروا يا رسول الله، ومن هم؟ قال: ((المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم وغيره.
ومن حقوق المسلمين والمؤمنين بعضهم على بعض: احترام حقوقهم التي سبقوا إليها، فلا يبع بعضهم على بيع بعض، بأن يقول لمن اشترى سلعة بثمن: أنا أعطيك مثلها أو أحسن منها بأقل من ذلك الثمن. ولا يسُم بعضهم على سوم بعض، وذلك إذا سام سلعة وأراد صاحبها أن يبيع عليه جاء آخر وقال له: لا تبع، أنا أزيد في السّوم.
ولا يخطب على خطبة أخيه، وذلك إذا خطب امرأة رضيت به جاء آخر يخطبها، فقد نهى النبي عن هذه الأشياء كلها فقال: ((لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته))، وفي رواية: ((لا يسم على سومه)).
ومما نهى عنه الرسول : التناجش يبن المسلمين، وهو أن يزيد في السلعة المعروضة للبيع من لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع قيمتها على المشتري، قال : ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)).
والتدابر: أن يعرض عن الإنسان ويهجره ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر.
ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض: التزاور فيما بينهم، وإفشاء السلام، وقضاء حوائجهم، والرفق بضعفائهم، وتوقير كبارهم ورحمة صغارهم وعيادة مرضاهم واتباع جنائزهم، قال : ((حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.
ومن حقوق المسلمين: دعاء بعضهم لبعض. قال تعالى لما ذكر المهاجرين والأنصار: وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
وقال تعالى: وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ [محمد:19].
فالمؤمنون أخوة في جميع الأزمان من أول الخليقة إلى آخرها، وفي جميع أقطار الأرض وإن تباعدت ديارهم يدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض، ويحب بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا على البر والتقوى، وينصح بعضهم لبعض، ويصدقون في تعاملهم فيما بينهم، ويحترم بعضهم حقوق بعض، لأن الله ربط بينهم برابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة النسب والوطن واللغة.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وراعوا حقوق هذه الأخوة، ولا تضيعوها فتكونوا من الخاسرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:102-105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|