أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه أفضل مُكتسب، وطاعَتَه أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، جعل الله الكعبةَ البيتَ الحرامَ قيامًا للناس ومثابة، وجعله لأمّة محمّد قِبلة. حرمُ الله الذي أوسعه كرامةً وبهاءً، وعظمةً وقداسةً وجَلالاً، وها هم حُجَّاج بَيتِ الله الحرام وقد تكاملت وفودهم، واجتمعت حشودهم، الإيمان يحدوهم، والشوقُ يدعوهم، يؤمُّون البيتَ العتيق، ويُلبُّون من كلّ فجٍّ عميق، ويثوبون من كل ناحيةٍ وطريق، ويأتون من كلّ طرفٍ سحيق، يرجونَ ما عند الله من الثواب، قد سَعَوا لكَرَمِه، ونَزَلوا بحرَمِه، وهو الكريم الوهاب، الرحيم التوّاب، لا يُخيِّب من رجاه، ولا يرُدُّ من دعاه.
الحُجَّاجُ والعُمَّار وفدُ الله، دعاهم فأجابوا، وسألوه فأعطاهم، والحجُّ يهدِم ما قبلَه، ومن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كما ولدَتْه أمُّه، والحجة المبرورة ليس لها ثوابٌ إلا الجنة، وما من مُلبٍّ يُلبِّي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا.
ومن طاف بالبيت وصلَّى ركعتين كان كعِتقِ رقبة، ومن طاف بالبيت أسبوعًا -أي: سبعة أشواط- لا يضع قدمًا ولا يرفع أُخرى إلا حطَّ الله عنه خطيئة، وكتب له بها حَسَنة، ومَسحُ الحجرِ والركن اليماني يحُطُّ الخطايا حطًّا.
وأخرج ابن حبان والبيهقي والطبراني وحسَّنه في "صحيح الجامع" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار سأل رسول الله عما له في حجِّه من الثواب، فقال رسول الله : ((أمّا خروجُك من بيتك تؤمُّ البيت الحرام فإن لك بكلّ وطأةٍ تطؤها راحلتُك يكتبُ الله لك بها حَسَنة ويمحو عنك سيِّئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجلّ ينزل إلى السماء الدنيا فيُباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شُعثًا غُبرًا من كل فجٍّ عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني. فلو كان عليك مثلُ رملِ عالجٍ أو مثلُ أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأمّا رميُك الجمار فإنه مذخورٌ لك، وأما حلقُك رأسَك فإنّ لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طُفتَ بالبيت خرجتَ من ذنوبك كيوم ولدَتْك أمك)).
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ما أعظَمَه من تكريم! وما أجلَّه من ثوابٍ عظيم!
أيّها الحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار، العقيدة جمَعَتكم، ولُحمةُ الدين نظَمَتكم، فتراحموا وتعاطَفوا وتعاونوا، ولا تدافعوا، ولا تزاحموا، ولا تقاتَلوا، ارحموا الضعيفَ، وأرشدوا الضالَّ، وساعدوا العاجزَ المحتاج. عليكم بالطمأنينة والتأني، والوداعةِ والوقار، والخشوع والسكينة، واسألوا عمّا أشكل، واستفتوا عما أقفَل، فإنما شفاءُ العِيِّ السؤال، وصونوا حجَّكم عمّا لا يليق به من البدَع والخرافات والمُحدثات، ولا تَنحَنوا لأمواتٍ، ولا ترجوا شفاءً من رُفات، ولا تتبرَّكوا بجدارٍ أو باب، ولا تتمسَّحوا بمنبرٍ أو محراب، وجانِبوا المعاصِيَ والآثام، وحاذِروا السبابَ والتنابز بالألقاب، وإياكم والجدالَ والمراءَ والمُلاحاة، والمنازعةَ والتلاسُن والخِصام، واللَّغَى من الكلام، وأكثِروا من التوبة والاستغفار، وأظهِروا التذلُّل والانكسار، والندامةَ والافتقار، والحاجة والاضطرار؛ فإنكم في مساقط الرحمة ومواطن القبول ومظِنَّات الإجابة والمغفرة والعتق من النار. تذكَّروا جلالة المكان وشرف الزمان.
تلقَّى الله دعاءكم بالإجابة، واستِغفاركم بالرضا، وحجَّكم بالقبول، وجعل سعيكم مشكورًا، وذنبكم مغفورًا، وحجَّكم مبرورًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورًا.
|