أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتقوا الله يا حُجَّاج بيتِ الله، فتقواه سبحانه خيرُ مَرقاةٍ لبلوغِ المرام، وأمنعُ عاصمٍ لاجتنابِ الأوزار والآثام، فاعمُروا بها قلوبَكم وأوقاتَكم، واستدرِكوا بها من الطاعاتِ ما فاتَكم، مُستثمرِين شرفَ الزمان وشرفَ المكان وشَرفَ المناسبَةِ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
إخوةَ الإسلام، حُجَّاجَ بيتِ الله الحرام، ها هو موسِمُ الحجّ الأزهر، ويومُه الأغرّ الأكبر، قد أضاءَت في سماء الأمة أنوارُه، وتلألأت لياليه وأشرَق نهاره، وعبَقَت بالبشائرِ أزهارُه، وبالخيرات والبركات ثمارُه، وسطَعَت في أفئِدَة الحجيجِ فضائله وآثاره.
حطَّت مواكبُ للحجيج متاعَها والكلُّ من فَرْط السعادةِ يجأر
ذهَلوا عن الدّنيا وبـــاطل لهوهــــا وتذكَّــــروا الآثـــامَ لو تتذكَّـــــــروا
أيها الحُجَّاج الميامين، حقَّق الباري سُؤلَكم ومُناكم، تشرُف بكم بلادُ الحرمين -حرسها الله- رعاةً ورعية، أرضًا ووِهادًا، سهلاً ومُنآدًا، يستبشرون بكم ضيفًا عزيزًا مرقوبًا، ووفدًا كريمًا محبوبًا، فخِدمتكم تاجُ فَخارٍ يتلألأ على صدور أهلِها، ووسامُ شرفٍ يتألَّق في عِقد جِيدِ أبنائها، شِعارُكم تلبيةٌ مُجلجِلةٌ بالتوحيد لربّ العبيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
لبيك يا ربَّ الحجيج جُمُوعُه وفَدَت إليك
ترجو المثابة في حِماك وتبتغي الزُّلْفى لديك
لبيك والآمالُ والأفضالُ من نُعمَى يديك
حُجَّاجَ بيت الله الحرام، ها أنتم أولاءِ بحمد الله في رحابِ الحرمين الشريفين، تعيشون أجواءً مُفعَمةً بالروحانية، في أجلِّ مناسبةٍ إسلاميّةٍ عالميّة، فللَّه درُّكم من إخوةٍ متوادِّين متراحمِين، وأحِبَّةٍ على رِضوان الله مُتآلفين مُتعاوِنين، وصَفوةٍ لنسائِمِ الإيمان مُتعرِّضين، ذَوَت في جليل مقصدكم زينةُ الأثواب وعِزَّة الأنساب وزخارف الألقاب والأحساب.
أيا من أنضَيتم الأبدان، وفارَقتم الولدانَ والأوطان، وتجشَّمتم الفَيافي والأخطار، وجُزتم الأجواء والبِحار، حاسري الرؤوس، خاشِعي النفوس، امتثالاً لأمر المنَّان، وداعي خَليل الرحمن، والإيمانُ المُضطرم يعرِك أقدامكم، والحنين الكمين حادي إقدامِكم، كي تُنيخوا مطايا الشوق بأعظَمِ بِقاع الله تَفضِيلاً، وأكرمِها جملةً وتَفصيلاً، وترتادوا حِمى من؟ حِمى الواحدِ الديَّان، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97]؛ مما يُؤكِّد أهميةَ رعايةِ أمن البلد الحرام ونِظامِه.
هنيئًا لكم وقد كحَّلتم أعينَكم بِرؤية أرضٍ درَجَ عليها الحبيب، وانبثَق منها نورُ الرّسالة الرحيب، على صاحبها صلاةٌ تَتْرى وسلامٌ عبِقٌ رطيب. ألا فليَكُن ذلك تقويةً لإيمانكم وبعثًا لعزائمكم وشحذًا لهِمَمكم.
نعم أيّتها الوفود المباركة، ها قد حقَّق الله سُؤلَكم، وبلَّغكم مأمولَكم، فعاينتُم البيتَ الأطهر والمكان الأزهر، الذي استبى حبَّاتِ الشِّغاف فأبهر، ولسانُ حالكم ما أضمَر بل أظهر:
وسِرنا نشقّ البِيْد للبلد الذي بجهــــــدٍ وشِقٍّ للنفــــوس بلغنــــاه
رجالاً ورُكبانًا على كلّ ضامرٍ ومن كل ذي فجٍّ عميق أتيناه
حُجَّاج بيت الله الحرام، وفي هذه المواكبِ المهيبة والحشود المباركة الحبيبة، التي اتحدَت زمانًا ومكانًا شعائرَ ومشاعر، يعقِد الإسلام وفي أحكم ما يكون العَقد بإحدى منافع الحج الجُلَّى، مناطِ الوحدة الإسلاميّة والروحية الصّلبة التي تنحسِر دونها كلُّ المِحَن والمآسي، يقول سبحانه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52].
إخوةَ الإيمان، ضيوفَ الرحمن، كبرى القضايا التي قام عليها ركنُ الحج الركين، بل وقامَت عليها جميع الطاعاتِ والعبادات هي تجريد التوحيدِ الذي هو حقُّ الله على العبيد وإفرادُه سبحانه بالعبادة دون سواه، فأعظم مقاصد الحجّ ومنافعه -يا عباد الله- تحقيق التوحيد الخالص لله، كما قال جل شأنه: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]. وما التلبية التي يلهَجُ بها الحجيج وتهتز لها جَنَبات البلد الأمين وتُجلجِل بها المشاعر القِداس إلا عنوان التوحيد والإيمان ودليل الطاعة والإذعان، ولأجل التوحيد رُفِعت قواعد هذا البيت المُعظَّم من أول وهلة، قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج: 26].
مواكبَ الحجيج، ويلتحِق بتلك الأصول النِّفاع أصلُ المحبّة والتأسِّي والاتباع، فمحبته اقتداءٌ واهتداء، لا انتحالٌ وادِّعاء، يقول سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، ويقول : ((خذوا عني مناسككم)).
مع استشعارٍ لعظمة هذه الفريضة الجليلة ومقاصدها السامية النبيلة، أليست هي الركن الخامسَ من أركان الإسلام وإحدى شعائره العِظام؟! في الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم، وفيهما أيضًا أنَّ رسول الله قال: ((من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجَع من ذنوبه كَيَوم ولدَته أمُّه)). الله أكبر!
فكم حامدٍ وكم ذاكرٍ ومُسبِّحٍ وكـــم مُذنِبٍ يشكـــو لمولاه بلـــواهُ
وظلَّ حجيــجُ الله لليل واقفًـــــا فقيل: انفروا فالكل منكم قبِلناه
أمّة الإسلام، وفودَ بيتِ الله الحرام، إنَّ شعيرة الحج في جوهرها البديع ومظهرها الأنِق المنيع لتدعونا لاتخاذها مُنعطَفًا عمليًّا ومنارًا، ووثبةً جادةً لحمل قضايانا ومثارًا، فحتَّامَ الشتاتُ والاختلاف حتَّام؟! وإلامَ التناثُر والتنافُر إلام؟! لقد حلَّ الأوان وحان الآن في اغتنامٍ لشرفِ الزمان والمكان لمعالجة مِحَنِ الأمة ونزاعاتها ووَحَر صدورها وخلافاتها إقليميًّا ودوليًّا وعالميًّا، وأن يكونَ هذا الاجتماع الربانيّ مِسبارًا للأعمال ورائدًا للآمال وعهدًا للتناصُر وتثبيت الأواصِر ومُستأنفًا لنبذ التراخي وتأكيد التآخي، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]. لا سيما في أولى قضايانا الكبرى: قضية إخواننا في الأرض المباركة فلسطين والمسجد الأقصى، الذين جرَّحتهم ظُلمات الحِصار والخُطوب، وانقساماتُ الإخوة على شتى أهواءٍ وضروب، وإخوانِنا في بلاد الرافدَيْن الذين قرَّحتهم مآسي الحروب.
إنّ هذه الشعيرةَ المباركة لَلمناسبة العظيمة لأن نُزجِي للعالم أكْتَع الهداياتِ الربانية والرحماتِ المُصطفوية التي تهتِف بالحقّ والعدل والأمنِ والسّلام، وتُرفرِفُ بالرحمة والتسامُح والصفاءِ والوِئام، وتنبُذ الظلمِ والفساد والعنف والإرهاب، مهما كانت الدوافع والأسباب.
أيّها الحُجَّاج الكرام، اللهَ اللهَ في الحِفاظ على هذه العَرَصات الطاهرة والنعمة السابغة، والبِدارَ البِدارَ إلى تعظيم هذه البقاع الشريفةِ تأدُّبًا وتوقيرًا وصيانةً وتطهيرًا، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
حَذارِ من كلّ ما يُعكِّر أمنَها وأمانها وسكينتَها واستقرارها، تحلَّوا -يا رعاكم الله- بالأخلاق الكريمة والآداب القويمة، وحَذارِ من الأذى والخِصال الذميمة، فالحجُّ عبادةٌ وأمنٌ وسلوكٌ حضاريّ، والله عزّ وجلّ يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197].
وتحية تقديرٍ وإجلالٍ وإعزازٍ للعاملين على راحةِ الحجيج في المواقع المدنيّة والأمنية، وهنيئًا لهم هذا الشرف العظيم والمرتبة السنيّة، لا زال العون والسدادُ أليفَهم، والإخلاص والاحتساب حليفَهم.
وليهنأ الحُجَّاج الأكارم بمنظومةِ الخدمات المُتألِّقة والمشروعات العِملاقة المُتكاملة، ولعل ما يُطرِّزُ سناها هذا العام مشروعُ قِطار الحرمين والمشاعِر المُقدَّسة، جعله الله في موازين الحسنات.
نسأل الله سبحانه في أوّل الأمر وبادئه وخاتمه وعائده أن يوفِّق حُجَّاج بيته الحرام، وأن يُعينهم على أداء مناسكهم، وأن يجعل حجَّهم مبرورًا وسعيَهم مشكورًا وذنبهم مغفورًا، وأن يُعيدهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين، إنه جوادٌ كريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّ ربي لغفور رحيم.
|