.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

من دروس الحج

6277

فقه

الحج والعمرة

عبد المحسن بن محمد القاسم

المدينة المنورة

28/11/1431

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- شوق المسلمين للبيت العتيق. 2- توافد الحجاج إلى البيت الحرام. 3- دروس الحج وعبره. 4- فضل يوم عرفة. 5- فضل الهدي. 6- فضل الذكر والاستغفار. 7- أعمال عشر ذي الحجة. 8- من أحكام الأضاحي.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتَّقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.

أيّها المسلمون، تتوالى مواسمُ الخيرات محفوفةً بفضلِ الزمان وشرفِ المكان، وأفئدةُ المسلمين تهفو لبيتٍ يتَّجهون إليه مراتٍ كلَّ يوم، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144]، وأنظارهم تتطلَّع لبقاعٍ مباركةٍ تتجدَّد فيها العِبَر والعِظات، قال سبحانه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران: 97]. نفعُه متعدٍّ للحاضر والباد، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: 28]، والأرزاقُ إليه دارَّةٌ والنِّعَم حوله متوالية، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص: 57].

رِكابُ الحجيج يمَّمت بيتَ الله العتيق، راجيةً موعودَ الله، مُستقبِلةً طاعةً مِن أجلِّ العباداتِ وركنًا من أركان الدين. حجُّ بيتِ الله الحرام بيت لحطِّ الأوزار والآثام، قال عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص عند إسلامِه: ((أَما علمتَ أنَّ الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدِم ما كان قبله؟!)) رواه مسلم. فيه غسلُ أدرانِ الذنوب والخطايا، قال عليه الصلاة والسلام: ((من حجَّ فلَم يرفُث ولم يَفسُق رجع كيوم ولدَته أمه)) متفق عليه. ثوابُه جناتُ النّعيم، قال النبيّ : ((الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة)) رواه مسلم.

في الحج منافع وعِبَر: توحيدُ الله وإفراده بالعبادة شِعارُ الحج، وافتتاح النُّسُك: "لبيكَ اللهم لبيكَ" استجابةٌ لأوامر الله وأعظم أمرٍ أمَر الله به، قال جابر رضي الله عنه: أهلَّ النبيّ بالتوحيد. رواه مسلم.

"لبيك لا شريك لك لبيك" نَبذُ الشرك وإقراره بالتوحيد؛ إذ هو أساس الدين وأصله، وشرط قبول الأعمال.

"إن الحمد والنعمة لك" فيها تذكيرٌ بإسداءِ النعَم والثناءُ على المُنعِم؛ لتُصرَف الأعمال له وحده، ومن لبَّى في بلد الله الحرام فقد عاهَدَ ربَّه بإفراده بالعبوديّة في كلّ مكان وزمان.

والتجرُّد من المخيطِ تذكيرٌ بلباسِ الأكفان بعد الرّحيل، وإرشادٌ إلى التواضع ونَبذ الكبرياء، الجمعُ كلُّه إزارٌ ورداء، الرأسُ خاضعٌ للجبار مُستكينٌ للرحمن.

وفي رؤيةِ البيت المعمور مَشهَدٌ لإخلاصِ الأعمال لله، نبيَّان كريمان: الخليل وابنُه يرفعان أشرفَ معمور، ومع هذا يسألانِ الله قبول العمل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127].

وواجبٌ على الحاجّ إخلاصُ أعمال الحجّ وغيرها لله، فلا يريد بعمله رياءً ولا سُمعة، ولا مُباهاة ولا مفاخرة، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]، طلبُ رضا الله وتكفير السيّئات.

وللطواف وقعٌ على القلوبِ في بِساطِ بيتِ الله الآمِن، فلا موطنَ على الأرض يُتقرَّب فيه إلى الله بالطّواف سوى ما حَولَ الكعبة المُشرَّفة، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29].

وفي تقبيلِ الحجَر الأسودِ حُسنُ الانقياد لشرع الله وإن لم تَظهَر الحكمة، قال عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: (والله، إني لأعلم أنّك حجرٌ لا تنفَع ولا تضرّ، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله يُقبِّلُك ما قبَّلتُك) متفق عليه.

وفي مناسك الحجِّ درسٌ في التقيُّد بالسّنّة وحسنِ الاتباع، قال عليه الصلاة والسلام: ((لتأخذوا عني مناسككم)) رواه مسلم. فعلى المسلِمِ اتباعُ النبيِّ في كلِّ قُربة، واقتفاءُ أثره في كلّ طاعة، وعدَم تتبُّع الرُّخَص في الحجّ أو غيره، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].

ويومَ عَرَفةَ يومٌ مُبارك، هو مُلتقَى المسلمين المشهودُ، يوم رجاءٍ وخشوع وذلٍّ وخضوع، يومٌ كريمٌ على المسلمين، قال شيخ الإسلامِ رحمه الله: "الحجيجُ عشيّةَ عرفَة ينزل على قلوبهم من الإيمانِ والرّحمة والنور والبركةِ ما لا يمكن التعبيرُ به".

والدعاءُ عظيمُ المكانة رفيع الشأن، يرفَع الحاجّ إلى مولاه حوائجه، ويسأله من كرمه المتوالي، والإلحاحُ على الربّ الكريم في الطّلَب وعدم اليأسِ من تأخر العطاءِ يَقينٌ بإجابة الدعاء. وأفضل الدعاء دعاءُ ذلك اليوم، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: "دعاءُ يوم عرفةَ مُجابٌ كلّه في الأغلب".

والإكثارُ فيه مِن كلمةِ التّقوى مع العلم بمعناها والعمَلِ بمقتضاها خيرُ الكلام، قال عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ الدعاء دعاءُ يومِ عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيّون من قبلي: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير)) رواه الترمذي.

يومٌ يكثُر فيه عُتقاء الرحمن، ويُباهي بهم ملائكتَه المُقرَّبين، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما مِن يومٍ أكثرُ من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفةَ، وإنه ليدنو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء)) رواه مسلم. قال ابن عبد البرّ رحمه الله: "وهذا يدلّ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنّه لا يُباهِي بأهلِ الخطايا والذّنوب إلا من بعدِ التوبة والغفران".

واجتماعُ الناسِ في عرفةَ تذكيرٌ بيومِ الحشر لفضلِ القضاء بين الخلائِق، ليصيروا إلى منازلهم: إما نعيمٌ وإما جحيم.

والنُّسُك من هديٍ أو أُضحيةٍ عِبادةٌ محضةٌ للهِ يتقرَّب بها المسلمون لربهم، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج: 37].

وفي وَضعِ النواصي بين يدَي ربها حَلقًا أو تَقصيرًا استسلامٌ لهيمنَةِ الله وخضوعٌ لعظمته وتذلُّل لعزّته.

والذكرُ حياةُ القلوب، والإكثارُ منه في المشاعِر مقصدٌ من مقاصِد أداءِ تلك الشعيرةِ، وأرجى لقبولها، وأصدقُ في إخلاصِ فِعلِها، قال عزّ وجلّ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج: 28]، وقال جلّ وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة: 198]، وقال سبحانَه: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]، وقال تعَالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203]، فشعائرُ الحجِّ شُرِعت لذكرِ الله، قالَ عليه الصلاة والسلام: ((إنما جُعِل الطوافُ بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجِمار لإقامة ذكر الله)) رواه الترمذي.

وأقربُ الحجيج عند الله منزلةً أكثرُهم له ذكرًا، قال ابن القيِّم رحمه الله: "أفضلُ أهل كلّ عملٍ أكثرُهم فيه ذكرًا؛ فأفضل الصُّوَّام أكثرُهم ذكرًا لله في صومِهم، وأفضلُ المُتصدِّقين أكثرُهم ذكرًا لله، وأفضَل الحُجَّاج أكثرهم ذكرًا".

وإذا انقضى الحجُّ فأكثِر من الاستغفارِ فهو ختامُ الأعمالِ، والاستغفارُ يُخرِج العبدَ منَ العمَل الناقصِ إلى العمل التامّ، ويرفع العبدَ من المقام الأدنى إلى الأعلَى منه والأكمَل، ومن أحسَن في حجّه وابتعَد عن نواقِصه عاد منه بأحسَن حالٍ وانقلبَ إلى أطيبِ مآل.

ومِن أمارةِ الرّضا والقبول فِعلُ الحسنةٍ بعد الحسنة، وإذا انقلَب الحاجّ إلى ديارِه فليكُن قدوةً فيها بالصّلاح والاستقامةِ والدعوةِ إلى الله على بصيرة.

أعوذُ بالله من الشّيطان الرّجيم، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 27، 28].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميعِ المسلمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيّها المسلمون، أيّام عشر ذي الحجّةِ أيامٌ مُباركة، الأعمالُ فيها فاضِلة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما مِن أيامٍ العَملُ الصالحُ فيها أحبُّ اللهِ من هذهِ الأيام)) يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.

فأكثِروا فيها من التكبيرِ والتحميد وقراءة القرآن وصِلة الأرحام وبرّ الوالدين والصدقةِ وتفريج الكُربات وقضاء الحاجات وسائر أنواع الطاعات.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُحيونَ في العشرِ سنّة التكبير بين الناس، كان ابن عمَر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرُجان إلى السوقِ في أيّام العشر، فيُكبِّران ويُكبِّر الناسُ بتكبيرهما. رواه البخاري.

والخيرُ يتتابع في العشرِ بذبحِ الأضاحي يومَ العيد وأيامَ التشريق، وقد ضحَّى النبيُّ بكبشَيْن أملَحَيْن أقرنَيْن، سمَّى وكبَّر وذبحهما بيده. متفق عليه.

وأفضل الأضاحي أغلاها ثمنًا وأنفسُها عندَ الله، وتُجزِي شاةٌ واحدة عن الرجلِ وعن أهلِ بيتهِ، ويحرُم على مَن أراد أن يُضحِّيَ أن يأخذَ في العشرِ شيئًا من شَعره أو ظفره أو بشرته حتى يذبح أُضحيته.

ومن أقام في بلدِه وسبَقه الحجيجُ إلى المشاعر شُرِع له صيامُ يومِ عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: ((صيامُ يومِ عرفةَ أحتسبُ على الله أن يُكفِّر السنة التي قبلَه والتي بعده)) رواه مسلم.

فاغتنِموا مواسمَ العبادةِ قبل فواتها، فالحياة مَغنَم، والأيام معدودَة، والأعمارُ قصيرة.

ثم اعلَموا أنَّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً