أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ وَأَبُو بَكرٍ عَبدُ اللهِ بنُ أَبي قُحَافَةَ لا يُذكَرُ هَذَا إِلاَّ ذُكِرَ ذَاكَ، مُحَمَّدٌ هُوَ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ المُرسَلِينَ، وَأَبُو بَكرٍ هُوَ الصِّدِّيقُ صَاحِبُهُ في الغَارِ وَرَفِيقُهُ في الهِجرَةِ، وَوَزِيرُهُ المُلازِمُ لَهُ مُلازَمَةَ الظِلِّ وَخَلِيفَتُهُ الأَوَّلُ، أَوَّلُ مَن أَسلَمَ مِنَ الرِّجَالِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، كَانَ رَسُولُ اللهِ لا يُخطِئُهُ أَحَدُ طَرَفيِ النَّهَارِ أَن يَأتيَ بَيتَهُ إِمَّا بُكرَةً وَإِمَّا عَشِيَّةً، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ في نَفسِهِ وَمَالِهِ مِن أَبي بَكرِ بنِ أَبي قُحَافَةَ، وَلَو كُنتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسلامِ أَفضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوخَةٍ في هَذَا المَسجِدِ غَيرَ خَوخَةِ أَبي بَكرٍ))، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا لأَحَدٍ عِندَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَد كَافَأنَاهُ مَا خَلا أَبَا بَكرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِندَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللهُ بها يَومَ القِيَامَةِ)). رَضِيَ اللهُ عَنِ الصِّدِّيقِ وَأَرضَاهُ، وَأَحَبَّهُ وَرَفَعَهُ كَمَا أَحَبَّهُ نَبيُّ الإِسلامِ وَرَفَعَهُ، وَكَافَأَهُ يَومَ القِيَامَةِ بما سَبَقَ لَهُ مِن يَدٍ بَيضَاءَ لم يَنسَهَا لَهُ أَوفى النَّاسِ وَأَجوَدُهُم وَأَحسَنُهُم خُلُقًا عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، هَذِهِ اليَدُ الَّتي لأَبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَالَّتي لا يُكَافِئُهُ عَلَيهَا إِلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لم تَكُنْ وَلِيَدَةَ يَومٍ أَو يَومَينِ صُحبَةً لِرَسُولِ اللهِ، وَلا نَتِيجَةَ إِنفَاقِهِ دِرهَمًا أَو دِرهَمَينِ في سَبيلِ اللهِ، بَل هِيَ خُلاصَةُ عُمرٍ مُبَارَكٍ وَعُصَارَةُ نَفسٍ مُخلِصَةٍ، وَثَمَرَةُ مَالٍ رَابِحٍ وَوَلَدٍ صَالحٍ وَهَبَهَا أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ للهِ وَلِرَسُولِهِ، فَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ يَومًا أَن نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِندِي، فَقُلتُ: اليَومَ أَسبِقُ أَبَا بَكرٍ إِنْ سَبَقتُهُ يَومًا، فَجِئتُ بِنِصفِ مَالي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ؟)) قُلتُ: مِثلَهُ. قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِكُلِّ مَا عِندَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : ((مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ؟)) قَالَ: أَبقَيتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ. قُلتُ: لا أُسَابِقُكَ إِلى شَيءٍ أَبَدًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَزَادَ مَحَبَّةَ الصَّاحِبَينِ الكَرِيمَينِ لِبَعضِهِمَا وَقَوَّى المَوَدَّةَ بَينَهُمَا أَنَّه تَوَّجَ أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَا بَذَلَهُ لِرَسُولِ اللهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِابنَتِهِ وَفَلَذَةِ كَبِدِهِ عَائِشَةَ، فَدَفَعَ بها إِلَيهِ وَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا؛ لِتَكُونَ امرَأَةَ إِمَامِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَلِتَصِيرَ زَوجَتَهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَلِتُصبِحَ أُمًّا لِلمُؤمِنِينَ وَتَنضَمَّ إِلى بَيتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ، ذَلِكُمُ البَيتُ المُبَارَكُ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، المُمتَلِئُ عَفَافًا وَطَهَارَةً وَنَزَاهَةً، فَيَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا، وَلِتَغدُوَ الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ في مَكَانَةٍ لا تُوَازِيهَا فِيهَا امرَأَةٌ مِن نِسَاءِ الأُمَّةِ إِلاَّ أُمَّهَاتُ المُؤمِنِينَ الَّلاتي أَرَدنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، فَيَقُولُ سُبحَانَهُ عَنهُنَّ: يَا نِسَاءَ النَّبيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ، وَلِتَغدُوَ عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ وَأَبُوهَا أَحَبَّ النَّاسِ إِلى رَسُولِ اللهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَعَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَن أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيكَ؟ قَالَ: ((عَائِشَةُ))، قِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: ((أَبُوهَا)).
أُمَّةَ الإِسلامِ، عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَعَن أَبِيهَا وَأَرضَاهُمَا- عَلَمٌ عَلَى رَأسِهِ نَارٌ، هِيَ بُشرَى جِبرِيلَ لِرَسُولِ اللهِ وَرُؤيَاهُ في مَنَامِهِ، وَهِيَ زَوجُهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَلم يَتَزَوَّجْ بِكرًا غَيرَهَا، وَهِيَ فُرقَانٌ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَفَيصَلٌ بَينَ مُؤمِنٍ مُحِبٍّ وَمُنَافِقٍ شَانِئٍ، عَابِدَةٌ زَاهِدَةٌ، خَطِيبَةٌ أَدِيبَةٌ، عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ، مُحَدِّثَةٌ فَصِيحَةٌ، طَاهِرَةٌ مُطَهَّرَةٌ، تَقِيَّةٌ نَقِيَّةٌ، أَقرَأَهَا الرُّوحُ الأَمِينُ السَّلامَ، وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ في لِحَافِهَا وَثَوبِهَا، وَأَحَبَّهَا رَسُولُ اللهِ طُولَ حَيَاتِهِ، وَتُوُفِّيَ في بَيتِهَا وَفي يَومِهَا وَبَينَ سَحرِهَا وَنَحرِهَا، وَجَمَعَ اللهُ بَينَ رِيقِهَا وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ، بِكُلِّ ذَلِكَ صَحَّتِ الأَخبَارُ وَثَبَتَتِ الآثَارُ.
قَالَ : ((كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلم يَكمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَريَمُ بِنتُ عِمرَانَ وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ، وَفَضلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ))، وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ : ((أُرِيتُكِ في المَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَجِيءُ بِكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ فَقَالَ لي: هَذِهِ امرَأَتُكَ، فَكَشَفتُ عَن وَجهِكِ الثَّوبَ فَإِذَا أَنتِ هِيَ، فَقُلتُ: إِنْ يَكُن هَذَا مِن عِندِ اللهِ يُمضِهِ))، وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّ جِبرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا في خِرقَةِ حَرِيرٍ خَضرَاءَ إِلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: هَذِهِ زَوجَتُكَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((يَا عَائِشُ، هَذَا جِبرِيلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ))، قَالَت: وَعَلَيهِ السَّلامُ وَرَحمَةُ اللهِ.
وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّونَ بِهَدَايَاهُم يَومَ عَائِشَةَ، يَبتَغُونَ بِذَلِكَ مَرضَاةَ رَسُولِ اللهِ ، وَقَالَت: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ كُنَّ حِزبَينِ: فَحِزبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَودَةُ، وَالحِزبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ، فَكَلَّمَ حِزبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَن أَرَادَ أَن يُهدِيَ إِلى رَسُولِ اللهِ فَليُهدِهِ إِلَيهِ حَيثُ كَانَ. فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ لَهَا: ((لا تُؤذِيني في عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحيَ لم يَأتِني وَأَنَا في ثَوبِ امرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ))، قَالَت: أَتُوبُ إِلى اللهِ مِن ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَونَ فَاطِمَةَ فَأَرسَلنَ إِلى رَسُولِ اللهِ فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ: ((يَا بُنَيَّةُ، أَلا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟)) قَالَت: بَلَى، قَالَ: ((فَأَحِبِّي هَذِهِ)).
وَعَن أَبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا أَشكَلَ عَلَينَا أَصحَابَ رَسُولِ اللهِ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلنَا عَائِشَةَ إِلاَّ وَجَدنَا عِندَهَا مِنهُ عِلمًا.
وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: إِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ تُوُفِّيَ في بَيتي وَفي يَومِي وَبَينَ سَحرِي وَنَحرِي، وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَينَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبي بَكرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ فَرَأَيتُهُ يَنظُرُ إِلَيهِ، وَعَرَفتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلتُهُ فَاشتَدَّ عَلَيهِ وَقُلتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنتُهُ فَأَمَرَّهُ، وَبَينَ يَدَيهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَيهِ في المَاءِ فَيَمسَحُ بهمَا وَجهَهُ وَيَقُولُ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ))، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: ((في الرَّفِيقِ الأَعلَى))، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَت يَدُهُ. وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: مَاتَ النَّبيُّ بَينَ حَاقِنَتي وَذَاقِنَتي.
هَذِهِ هِيَ أُمُّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةُ، الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ، نَشَأَت مُنذُ نُعُومَةِ أَظفَارِهَا في بَيتِ إِسلامٍ وَصَلاحٍ، لم تَعرِفْ جَاهِلِيَّةً وَلا ضَلالاً، وَلم تُجَرِّبْ غِوَايَةً وَلا سَفَاهَةً، قَالَت رَضِيَ اللهُ عَنهَا: لم أَعقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ.
إِنَّهَا المَرأَةُ الَّتي عَاشَت في قَلبِ رَسُولِ اللهِ قَبلَ أَن يَبنيَ بها بِبِشَارَةِ اللهِ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بها بَعدَ أَن هَاجَرَ إِلى المَدِينَةِ وَنَصرَهُ اللهُ في غَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى، تَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: تَزَوَّجَنيَ رَسُولُ اللهِ في شَوَّالٍ، وَبَنَى بي في شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ أَحظَى عِندَهُ مِنِّي؟!
ثُمَّ إِنَّهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا عَاشَت مَعَهُ حَيَاتَهُ وَهِيَ الشَّابَّةُ الصَّغِيرَةُ الحَدِيثَةُ السِّنِّ المَحَبَّةُ لِلَّعِبِ، فَكَانَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا يُسَرِّبُ إِلَيهَا صَوَاحِبَهَا يُلاعِبْنَهَا، وَمَكَّنَهَا مِن أَن تَضَعَ رَأسَهَا عَلَى كَتِفِهِ الشَّرِيفِ وَخَدُّهَا عَلَى خَدِّهِ مُستَتِرَةً بِهِ لِتَنظُرَ إِلى الأَحبَاشِ وَهُم يَلعَبُونَ بِحِرَابِهِم في المَسجِدِ، وَكَانَ مِن حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُحَادَثَتَهَا إِذَا سَافَرَ، وَسَابَقَهَا مَرَّةً فَسَبَقتُهُ، ثُمَّ سَابَقَهَا أُخرَى فَسَبَقَهَا، وَبَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن كَانَ يُدَلِّلُهَا فَيَقُولُ: ((يَا عَائِشُ))، وَ:((يَا مُوَفَّقَةُ))، وَ:((يَا بِنتَ الصِّدِّيقِ))، وَإِذَا غَارَت زَوجَاتُهُ مِنهَا قَالَ: ((إِنَّهَا بِنتُ أَبي بَكرٍ))، بَل بَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن جَعَلَ يَعلَمُ بما يَدُورُ في خَاطِرِهَا تُجَاهَهُ، فَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ : ((إِنِّي لأَعلَمُ إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى))، قَالَت: فَقُلتُ: مِن أَينَ تَعرِفُ ذَلِكَ؟! فَقَالَ: ((أَمَّا إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى قُلتِ: لا وَرَبِّ إِبرَاهِيمَ))، قَالَت: قُلتُ: أَجَلْ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهجُرُ إِلاَّ اسمَكَ.
وَكَانَ يُدَاعِبُهَا فَيَتَعَمَّدُ شُربَ المَاءِ مِنَ المَوضِعِ الَّذِي تَشرَبُ مِنهُ وَالأَكلَ ممَّا تَأكُلُ مِنهُ، فَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعطِيني العَرْقَ فَأَتَعَرَّقُهُ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ، وَيُعطِيني الإِنَاءَ فَأَشرَبُ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ. حَتَّى إِذَا مَرِضَ استَأذَنَ نِسَاءَهُ في أَن يُمَرَّضَ في بَيتِهَا فَأَذِنَّ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ في حِجرِهَا وَهُوَ رَاضٍ عَنهَا، بَل وَدُفِنَ وَصَاحِبَاهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا في بَيتِهَا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ بَقِيَتِ الصِّدِّيقَةُ بَعدَهُ مَنَارَةَ عِلمٍ وَمَوئِلَ فِقهٍ، فَأَفتَتِ المُسلِمِينَ في عَهدِ عُمَرَ وَعُثمَانَ، وَجَلَسَت لِلتَّحدِيثِ فَرَوَى عَنهَا كِبَارُ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مَسرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنهَا قَالَ: حَدَّثَتني الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ المُبَرَّأَةُ فَلَم أُكَذِّبْهَا.
فَرَضِيَ اللهُ عَن عَائِشَةَ وَأَرضَاهَا، وَرَضِيَ عَن أَبيهَا وَأَرضَاهُ، وَحَشَرَنَا في زُمَرَتِهِمَا مَعَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ أَنعَمَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا.
|