.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

من وحي الحج

6192

فقه

الحج والعمرة

عبد المحسن بن محمد القاسم

المدينة المنورة

3/12/1430

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الشوق إلى البلد الحرام. 2- فضل الحج ومنافعه. 3- معاني الحج. 4- فضل يوم عرفة. 5- أهمية الذكر في الحج. 6- فضل عشر ذي الحجة. 7- من أحكام الأضحية.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى؛ فتقوى الله نِعمَ الزاد، وهي النجاة يومَ المعاد.

أيّها المسلمون، تتوَالى مواسمُ الخيراتِ محفوفةً بفضلِ الزّمان وشرَف المكانِ، وأفئدةُ المسلمين تهفُو لبيتٍ مَعمورٍ يتَّجهون إليه كل يوم، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 149]، وأنظارُهم تتطلَّع لبقاعٍ مباركةٍ تتجدَّد فيها العِبر والعِظات، قال سبحانه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران: 97]. الأمنُ والأمان في ربوعِه بأمانٍ من الله، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97]. نفعُه متعدٍّ للحاضر والباد، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: 28]. الأرزاق إليه دارَّة، والنّعم حوله متوالية، أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57].

رِكابُ الحجيج مُيَمِّمةٌ بيتَ الله العتيق، مُنكسرةٌ في رِحابه، راجيةٌ مَوعودَ الله وجَزيلَ نوالِه، مستقبلةٌ طاعةً من أجلِّ العبادات ورُكنًا من أركان هذا الدين.

حجُّ بيت الله الحرام بابٌ رحبٌ لحطّ الآثام والأوزار، قال النبي لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: ((أمَا علمتَ أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدِم ما كان قبله؟!)) رواه مسلم.

فيه غَسلُ أدرانِ الذنوب والخطايا، قال عليه الصلاة والسلام: ((من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع كيومَ ولدته أمه)) متفق عليه.

ثوابه جنّات النعيم، قال : ((الحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)) رواه مسلم.

في الحج منافعُ وعِبر، توحيدُ الله وإفراده بالعبادة شعار الحج، وافتتاحُ النسك: (لبيك اللهم لبيك) استجابةٌ لأوامر الله، وأعظم أمرٍ أمر الله به (لبيك لا شريك لك لبيك).

البراءةُ من الشرك وأهله والإقرار بالتوحيد أساسُ الدين وأصله وشرطُ قبول الأعمال.

(إن الحمد والنعمة لك) فيها تذكيرٌ بإسداء النعم والثناءُ على المنعم لتُصرفَ الأعمال له وحده.

ومن لبَّى في بلدِ الله الحرام فعهدُه غليظ مع ربّه بإفرادِه بالعبوديّة في كل مكان.

والتجرُّد من المخيط تَذكّرٌ بلباس الأكفان بعد الرحيل، وإرشاد إلى التواضُع ونبذِ الكبرياء، الجمعُ كلُّه إزار ورداء، الرّأس خاضع للجبار مستكين للرحمن.

وفي رؤيةِ البيتِ المعمورِ مشهدٌ لإخلاصِ الأعمالِ لله، نبيَّان عظيمان يرفَعان أشرفَ مَعمورٍ ومع هذا يسألان الله قبول العمل: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]. قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن جمَع إحسانًا وشفقَة، والمنافقُ جمع إساءة وأمنًا". والمخلص يعمَل لله لا يريد بعمله رياءً ولا سمعَة ولا مباهاةً ولا مفاخَرة، بل طَلَب رضا الله وتكفير السيئات، ويسأل الله العون على العبادة.

وللطواف وقعٌ على القلوب ومهابةٌ في النفوس في بِساط بيت الله الآمن، فلا موطنَ على الأرض يُتقرَّب فيه إلى الله بالطواف سوى ما حولَ الكعبة المشرفة، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29].

وفي تقبيل الحجر الأسودِ حسنُ الانقياد لشرعِ الله وإن لم تظهر الحكمة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله، إني لأعلم إنك حجرٌ لا تنفَع ولا تضرّ، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبلتك) متفق عليه.

والتوكّلُ نصفُ الدّين، وفي السعيِ بين الصفا والمروةِ تذكيرٌ به، أمّ إسماعيلَ مع ابنها بوادٍ لا زرعَ فيه ولا ماء، فسعَت بين جبلَين قفرَين طلبًا لماء لها ولصغِيرها، وما رجَا أحدٌ ربَّه فخاب ظنه فيه، فكان زَمزم من ثمارِ توكّلها على ربها آيةً للناس بعدها.

وفي مناسكِ الحجِّ التزامٌ بالتمسّك بالسنّة وحُسن الاتباع، قال عليه الصلاة والسلام: ((لتخذوا مناسككم)) رواه مسلم. فعلى المسلم اتِّباع النبيّ في كلّ قربة، واقتفاءُ أثرِه في كلّ طاعة، وعدمُ تتبّع الرخص في الحج أو غيره، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7].

ويومُ عرفةَ يومٌ مبارك، هو ملتقَى المسلمين المشهودُ، يومُ رجاءٍ وخشوع وذلٍّ وخضوع، يومٌ كَريمٌ على المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الحجيج عَشِيَّةَ عرفةَ ينزل على قلوبهم من الإيمانِ والرحمةِ والنورِ والبركةِ ما لا يمكن التعبيرُ به".

والدعاء عظيم المكانةِ رفيعُ الشأن، وأفضلُ الدعاءِ دعاءُ ذلك اليوم، قال عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمد، وهو علَى كلِّ شيء قدير)) رواه الترمذي. قال ابن عبد البرّ رحمه الله: "دعاءُ يوم عرفةَ مجابٌ كلُّه في الأغلب".

يومٌ يكثر فيه عتقاء الرحمن، ويباهي بهم ملائكتَه المقرَّبين، قال النبي : ((ما من يومٍ أكثَر مِن أن يعتقَ الله فيه عبدًا من النارِ من يومِ عرفة، وإنّه ليدنو ثم يباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) رواه مسلم. قال ابن عبد البر رحمه الله: "وهذا يدلّ على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنّه لا يباهِي بأهلِ الخطايا والذّنوب إلا مِن بعد التوبة والغفران".

واجتماعُ الحجيجِ في المشاعر تذكيرٌ بيومِ الحشر لفصلِ القضاء ليصيروا إلى منازلهم، إمّا نعيمٌ وإمّا جحيم.

والنّسكُ عبادةٌ محضةٌ لله، يتقرَّب بها المسلمون لربهم من هَديٍ أو أُضحية، لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [الحج: 37].

وفي وضعِ النواصِي بين يدَي ربها حَلقًا أو تَقصيرًا استسلامٌ لهيمنةِ الله وخُضوعٌ لعظمته وتذلّل لعزته.

وذكرُ الله حياةٌ للقلوب، والإكثارُ منه في المشاعر مقصدٌ من مقاصد أداء تلك الشعيرة، قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ [الحج: 28]، وقال جل وعلا: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة: 198]، وقال سبحانه: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]، وقال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [البقرة: 203]. فشعائرُ الحج شُرِعت لذكرِ الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما جُعل الطوافُ بالبيت والسعيُ بين الصّفا والمروةِ ورميُ الجمار لإقامةِ ذِكر الله)) رواه الترمذي.

وأقربُ الحجيجِ عند الله مَنزلةً أكثرُهم له ذكرًا، قال ابن القيم رحمه الله: "أفضلُ أهلِ كلِّ عملٍ أكثرُهم فيه ذكرًا، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرُهم ذكرًا لله في صومِهم، وأفضلُ المتصدِّقين أكثرُهم ذكرًا لله، وأفضلُ الحجّاج أكثرُهم ذكرًا".

وإذا انقضى الحجّ فالاستغفار ختامُ الأعمال، ويتمِّم نقصَ الأفعال، ويرفَع العبدَ من المقام الأدنى إلى الأعلَى منه والأكمل.

ومَن أحسَن في حجِّه وابتعَد عن نواقصِه عادَ منه بأحسنِ حالٍ وانقلَب إلى أطيب مآل، ومِن أمارة الرضا والقَبول فِعلُ الحسنةِ بعد الحسنة.

وإذا انقَلب الحاجُّ إلى دِياره فليكن قدوةً فيها بالصلاح والاستقامة والدعوةِ إلى الله على بصيرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 27، 28].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تَسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميعِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشّكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عَليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أمّا بعد: أيّها المسلمون، أيّامُ عشرِ ذِي الحجّة أيامٌ مبارَكة والأعمالُ فيها فاضِلة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما مِن أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.

ومن العمل الصالح فيها التكبيرُ والتحميدُ وقراءةُ القرآنِ وصِلة الأرحامِ وبرّ الوالدين والصّدقة وتفريجُ الكُرُبات وقضاءُ الحاجات وسائِر أنواعِ الطاعاتِ، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أيامُ عشر ذي الحجّة أفضلُ من أيام العشر من رمضان".

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحيون في العشرِ سنةَ التكبير بين الناس، وكان ابنُ عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما يخرُجان إلى السوق في أيامِ العشر، فيكبِّران ويكبّر الناس بتكبيرهما. رواه البخاري.

والخيرُ يتتابَع في العشرِ بذبحِ الأضاحِي يومَ العيد وأيّام التشريق، وقد ضحَّى النبيّ بكبشين أملَحين أقرنين، سمَّى وكبَّر وذَبحهما بيدِه. متفقٌ عليه.

وأفضل الأضاحي أغلاها ثمنًا وأنْفسُها عند أهلها. وتجزئ شاةٌ واحدةٌ عن الرجل وعن أهل بيته. ويحرُم على من أرادَ أن يضحِّي أن يأخذَ في العشر شيئًا من شعرِه أو أظفاره أو بَشرته حتى يذبَح أضحيته. فطِيبوا بها نفسا، وكلُوا وأطعموا وتصدَّقوا، وتحرَّوا بصدقاتكم فقراءَكم، وبهداياها منها أرحامكم وجِيرانكم، وصونوا أعيادَكم عمّا يغضِب خالقَكم.

ومن أقام في بلدِه وسبَقه الحجّاج إلى المشاعِر شُرِع له صيام يوم عرفة، قال النبي : ((صيام يوم عرفة أَحْتسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والتي بعده)) رواه مسلم. فاغتنِموا مواسمَ العبادةِ قبل فواتها، فالحياة مغنمٌ، والأيام معدودة، والأعمار قصيرة.

ثم اعلموا أنَّ الله أمرَكم بالصلاة والسّلام على نبيِّه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً