أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإن تقواه أفضل مُكتَسب وطاعته أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، مضَى رمضانُ وانقضَى بلياليه الزاهرة وأيّامِه العامرَة وأجوائه العاطِرَة، فأشفَى من شدّة اللّوح والظّما، وأزال ما شفَّ من حُرقة الصدى، واستيقَظتِ القلوبُ بعد غَفوة، ولانَت بعدَ قَسوةٍ، ورَجعت بعد سَهوة، أمّا القَبول فعلاماتُه لامحة وأماراتُه لائِحة وآياتُه واضحة، حسنة تتبعها حسَنة، وطاعة تؤكِّدها طاعة، وإحسان يتلوه إحسان، وذاكَ دَأب العارفين بالله، الخائِفين من سَطوتِه وعقوبَتِه، الراجين لثوابِه وجنَّته، الذين قوِيَت محبتهم لله عزّ وجلّ ومحبّتُهم لرسوله ، فأخبتت نفوسُهم لله وسكنت، ورضِيَت به واطمأنَّت، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 18].
وأمّا من انحلَّت أطنابُه، ووهَت أركانه، وانعَكس سَيرُه بعد رمضان، فأبطَلَ ما قدَّم، ونقض ما أحكَم، وبدَّل الحسناتِ بالسّيئات، وحارَ بعدما كان، وأرخَى لنفسِه العَنان، وعاد إلى الفُسوق والعِصيان، فذاك الخاسِر المغبون والغاوِي المفتونُ الذي أذهَب بهاءَ طاعته وأحبط أجرَ عبادته.
أصِخِ السّمعَ أيُّها الجَمعُ لقول الله جلَّ في علاه: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا لأصحابِ النبيِّ : فيمَ تَرونَ هذه الآيةَ نزلت: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ؟ فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ضُرِبت مثلاً لعمَل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمَلٍ، قال عمر: لِرجلٍ غنيّ يعمل بطاعة الله عز وجل ثمّ بعث الله له الشيطان، فعَمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله. أخرجه البخاري. وروى الطبراني بسنده عن قتادة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33]، قال: "من استطاعَ منكم أن لا يبطِلَ عملاً صالحًا عمِلَه بعمل سيّئ فليفعل". ولا قوة إلا بالله؛ فإنَّ الخير ينسَخ الشرَّ، وإن الشرَّ ينسَخ الخير، وإنَّ ملاك الأعمال خواتيمُها، وقال جل في عُلاه: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل: 92]، امرأةٌ حمقاء خَرقاء مُلتاثة العقل تجهَد صباحَ مساءَ في معالجة صوفِها، حتى إذا صار خَيطًا سَويًّا ومحكمًا قويًّا عادت عليه تحلّ شُعَيراته، وتنقُض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثًا، وبعدَ الصّلاحِ محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاَّ الإرهاقَ والمشاقَّ، فإيَّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم وتبدِّدوا ما جمعتم.
أيّها المسلمون، داوموا على ما اعتدتم من الخيرِ في رمضان، ولا تنقطِعوا عنه، وخذُوا من العَمَل ما تطيقون ملازَمَته والثباتَ عليه ولو كان قليلاً، فالقليل الدّائم ينمو ويزكُو، وبِدوام القليلِ يدومُ التعبّد لله والذلّ له والأُنس به والقربُ منه والإقبالُ عليه، والكثيرُ الشّاقُّ ينقطِع ولا يدوم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((يا أيُّها الناس، عَليكم من الأعمالِ ما تُطيقون؛ فإنَّ الله لا يملُّ حتى تملّوا، وإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه وإن قلَّ))، وكان آل محمد إذا عمِلوا عملاً أثبتوه. متفق عليه. وعن علقمةَ قال: سألتُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا أمَّ المؤمنين، كيف كان عمل رسول الله ؟ هل كان يخصُّ شيئًا من الأيّام؟ قالت: لا، كان عمله دِيمة، وأيُّكم يستطيع ما كانَ رسولُ الله يستطيع؟! أخرجه مسلم. وقال القاسم بن محمد: وكانت عائشةُ إذا عمِلت العملَ لزِمته. أخرجَه مسلم. وكرِه أهلُ العِلم الانقطاعَ عنِ العمل الصالحِ بعد الاعتيادِ عليه استنباطًا من حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا عبدَ الله، لا تكُن مثلَ فلان؛ كان يقوم منَ الليل فترَك قيامَ الليل)) متفق عليه.
أيّها المسلمون، النّفسُ مطيّة، يحول بينَها وبينَ السَّير إلى الله تعالى خَطفَات الفِتَن وعقبات الشّهوَة وقُحَم الطّريق، بَيدَ أنَّ صبرَ ساعة وشجاعةَ نَفس وثبات قَلب تفضي بالعبد إلى قَطع الطريق واقتحام عقبته وبلوغ خلّته والخروج من الموطِن الغَثّ والأرضِ الوَخيمة والوصول إلى المنازل والمناهل والمراتع والمرابِع والأمانِ والضمان، فزمّوا المطيّة واخطُموها، وقودوها وازجروها، وتعاهَدوها وأصلِحوها، وتزوَّدوا للنُّقلة، وخذوا الأُهبة للرّحلة، وسدِّدوا وقاربوا وأبشِروا، واستعِينوا بالغَدوةِ والرَّوحة وشيءٍ من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنة، ونفعني وإيّاكم بما فيه من البيّنات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|