أمَّا بعد: فاتَّقوا الله في السرِّ والعلانية، فقد فازَ وسعِد من اتَّقاه، وخاب وخسِر من أسخَط مَولاه.
عبادَ الله، اشكُروا نِعَم الله عليكم، واذكُروه بهذه النّعمِ الظاهرة والباطنة التي لا يقدِر أحدٌ أن يسوقَها إليكم غيرُه، كما لا يقدر أحدٌ أن يدفع عنكم العقوباتِ والنقمَ غيرُ الله، قال الله تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38]، وقال عزّ وجلّ: قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38].
وأعظمُ ما أنعَم الله به عليكم ـ معشرَ المسلمين ـ الفرائِضُ التي تطهِّركُم وتزكِّيكم وتربِّيكم وترفَع درجاتِكم وتضاعِف حسناتِكم وتقرِّبكم إلى مولاكم في جنّة الخلدِ في النّعيم المقيم، كما أنعَم عليكم بتحريمِ المحرَّمات والمعاصي التي تدنِّس النّفوسَ وتذلّ صاحبَها وتخزيه في الدّنيا والآخرة وتوردِه المهالكَ وتنزِل به العقوباتِ العاجلةَ والآجلةَ وتوبِقه في جهنّم في عذاب مقيم، فالرب تبارك وتقدَّس لا تنفعُه طاعةُ الطائعين ولا تضرُّه معصية العاصين، قال الله تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الزمر: 7].
وشهرُ رمضانَ المبارَك شهرُ القرآن والإحسان، قد نِلتم به الخيراتِ والبركاتِ، ونلتم به كلَّ خيرٍ، ورفعكم الله به درجاتٍ، وزكَّى به نفوسَكم، وأعظم به أجوركم، فأَتبِعوا الاستقامةَ فيه بالاستقامةِ فيما بقِيَ من الأجل، وسارِعوا دائمًا إلى صالحِ العمَل؛ فبالاستقامةِ تنالون كلَّ مرغوب وتنجون من كلّ شرٍّ ومرهوب، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصّلت: 30-32]، وقال تبارك و تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 31]، وقال عزّ وجلّ: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى: 15]. وعن سفيان بنِ عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) رواه مسلم.
فيا من ذقتَ حلاوةَ الإيمان، ويا مَن صفَت لك الأوقاتُ في رمضان، ويا من تلذَّذتَ بمناجاة الرحمن وتلاوة القرآن، ويا من أنفقتَ في أبوابِ الإحسان، لا تتبدَّل العصيانَ بطاعة الملك الدّيان، ولا تتبدَّل الغفلةَ والاغترار بالدنيا بحياةِ الجنان، وإيّاك وخطواتِ الشيطان؛ فقد كان في رمضانَ مأسورًا، ويريد أن يجعلَ الأعمالَ بعد انطلاقه هباءً منثورًا، فرُدَّه خائبًا مدحورًا؛ بلزوم تقوى الله تبارك وتعالى، وكن متمسِّكًا بالقرآن؛ لتنجوَ من دار الهوان، ويرفعك الله بالتمسك به وبسنَّة رسوله إلى ما أعدَّ لأهل الإحسان.
وما أجملَ فعلَ الحسناتِ بعد الحسنات! وما أقبح فعلَ السيئات بعد الطاعات! فالحسنة بعد الحسنة زيادةٌ في الثواب ورضوانٌ من العزيز الوهاب، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17]، وقال تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا [مريم: 76].
والحسناتُ بعدَ السيّئاتِ تَكفيرٌ للسيِّئات وعظيمُ ثوابٍ للأعمال الصالحات، قال الله عزّ وجلّ: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 11]، وعن معاذ رضيَ الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسن)).
والسيئاتُ بعدَ الحسناتِ إمَّا أن تُبطلَها فيحرَم العاملُ الثوابَ، وإما أن تنقصَ ثوابها ولا بد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33].
وقد ذُكِرَ أنَّ السلفَ كانوا يَدعون الله تعالى ستةَ أشهرٍ أن يبلِّغهم رمضانَ، ويدعون الله ستةَ أشهر أن يتقبَّل منهم رمضان. وقيل لبشر الحافي رحمه الله: إنَّ قومًا يجتهدون في رمضانَ فإذا ولَّى ترَكوا، فقال: بِئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان! وربُّ الشهور هو الواحد الأحد الذي يتقرَّب إليه العبادُ بما يحبّ في كلّ وقت.
يا ابنَ آدم، إنّ الدنيا ليسَت بدارِ خلودٍ، فما أقصرَ مدّتَها! وما أسرَع انقضاءَ أيامها! والربُّ تبارك اسمه يقول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [يونس: 45]، وقال تعَالى: وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ [الأحقاف: 35]، وقال عزّ وجلّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم: 55].
ومقدارُ هذا الزمنِ هو مدّةُ بقائهم في قبورِهم إلى خروجِهم منها بدليل قولِ الله تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112-114]. وأمّا مدة حياة الإنسان قبلَ الموتِ فهو يعرِفها ويعلَم جيّدًا قدرَها القصير إذا نزل به الموتُ وكأنها لحظة قضاها.
وإذا كان زمنُ البرزخ وهو دهور متطاولة وأحقابٌ متعاقبة ممتدّةُ الآمادِ لا يحيط بها إلا الله لعِظَم مدتها، إذا كان لبثُ الناس في قبورهم كأنه ساعة، ألا تجعَل بقيّة عمرِك في طاعةِ ربك وتقدّمُ لحياتك الأبدية؟! قال الله تعالى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة: 38].
ولكم أعظم الاعتبار فيما مضى من الأعمار، هل أغنى متاعُ الأمس عن اليوم؟! وهل يغني متاعُ اليوم عن الغد؟! وهل نفَع من كان قبلكم ما أُوتوا من زهرةِ الدنيا وما أكَلوا من خُضرَتها وما لبسوا من فَروَتها وما تمتعوا به من لذتها؟! اضمحلَّت اللذات، وبقيت الحسنات والسيئات.
فإياك ـ أيها المسلمُ ـ وكلَّ قاطع يقطعك عن الربّ الرحيم وعن جناتِ النعيم، ويوجب لك العذاب الأليمَ، فالنفس الأمارةُ بالسوء والهوَى والبدَع والشهواتِ المحرّمة والشبهاتِ المضلّة والمالِ الحرام والدّنيا التي تصدّ عن الآخرة والتهاوُن بالفرائض كلُّ ذلك من قطاع الطرق عن الجنة.
وفي الحديث: ((من صام رمضان وأتبعه سِتًّا من شوَّال كأنما صامَ الدّهرَ)).
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرا [الانشقاق: 6-12].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وقوله القويم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|