أمّا بعد: فيا عبادَ الله، خيرُ من استَكنّ في الجنانِ وثَرّ به اللسانُ الوصيّة بتقوى المولى الرّحيم الرّحمن؛ فاتَّقوا الله ـ رحمكم الله ـ في السرّ والإعلان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
مِلاكُ الأمر تقوى الله فاجعلْ تُقـاه عدةً لصـلاح أمـرك
وبـادر نَحو طـاعته بعزمٍ فما تدري متَى يُمضَى بعمرك
أيّها المسلمون، في نأيٍ عن الحياةِ النمَطية الرتيبة وتجافٍ عن مَألوفِ الأزمِنة القتيبَة تُنيخ أمّتُنا الإسلامية مطاياها بين يدَي عَشرٍ عظيمة، مُبَجّلةٍ كريمة، بالخيرات جميمَةٍ، وبالفضائل عميمة، قد غمَرتِ الكون بضيائها، وعمرت القلوب المعنَّاةَ بحبها ببهَائها، عشرٍ جرَت بالطاعاتِ أنهارها، وتفتّقت عن أكمام الخيرِ والبر أزهارها، وتطلَّع الصائمون القائِمون في لهيفِ شوقٍ لنفحاتها وأسرارِها، تُفيض أيامُها بالقرُبات والسرور، وتنيرُ لياليها بالآيات المتلوّات والحبور؛ ألا فلتهنَأ هذه الأمّة بالاغتباطِ والبِشْر في حلولِ هذه العَشر الزُّهر.
جرتِ السنـون و قدْ مضَى العمْرُ و القلبُ لا شُكـرٌ ولا ذِكـرُ
هَـا قـدْ حبـاكَ اللهُ معـفـرةً طرقتْ رحابَـك هذه العشـرُ
معاشرَ الصائمين، ومضَت الليالي والأيامُ فإذا نحن بفَضل الله في أفضلِ ليالي العَام، العشرِ الأخيرة المباركة، عشر التجلِّيات والنفحات وإقالةِ العثرات واستجابةِ الدعوات وعتق الرقاب الموبِقات.
الله أكبر! إنها بساتين الجنانِ قد تزيَّنت، إنها نفحاتُ الرحمن قد تنزَّلت، فحريٌّ بالغافل أن يعاجل، وجديرٌ بالمقصِّر أن يشمِّر، وإنها والله لنعمةٌ كبرى أن تفضَّل المولى جلّ وعلا علينا ومدَّ في أعمارنا حتى بلَّغنا هذه العشر المباركةَ. وإنّ من تمام شكرِ هذه النعمة أن نغتنِمها بالأعمال الصالحة، فهل نحن فاعلون؟!
عشْرٌ وأيُّ العشْرِ يا شهرَ التُّقَى عشْرٌ بها عتقٌ من النيـرانِ
فيهَا منَ الأيـامِ أعظمُ ليلـةٍ بشرَى لقائمِ ليلِها بِجِنـانِ
أمّة الصيام والقيام، يتفضَّل ربُّنا جلّ وعلا على عباده بنفحاتِ الخيرات ومواسمِ الطاعات، فيغتَنم الصالحون نفائِسَها ويتدارك الأوابون أواخرها، ليالٍ مباركَة أوشَكت على الرحيل.
العشْرُ الأخيرةِ منْه تاج الليالي وأنوارهـا ساطعةٌ كالـلآلي
كان نبيّنا إذا دخَلت العشر أحيَا ليلَه وأيقَظ أهلَه وشدَّ مئزَرَه، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها. وعند مسلمٍ عنها رضي الله عنها وعن أبيها قالت: كانَ رسولُ الله يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِدُ في غيره، وفي العشرِ الأواخرِ منه ما لا يجتهِد في غيرِها.
ها نحن ذا ـ يا عبادَ الله ـ في الشوطِ الأخير من السباق، فليت شِعرِي من السابقُ الفائز؟! ومن المحروم الخاسر؟! من الذي سينفُض عنه سِنَة الغفلة ويشمِّر عن ساعد العزم؟! من الذي يرفُض ظلامَ التّواني ويستقبل فَجرَ العمل؟!
كان عليه الصلاة والسلام يخصُّ هذه العشرَ بمزيدٍ من الأعمال الصالحات، فمن ذلك إحياءُ الليلِ كلِّه وشدُّ المئزر، وهو كنايَة عن اعتزال النساء، وقيل: بل هو كناية عن الجدِّ في العبادة، ويحتَمل أن يرادَ الأمران معًا. قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله: "ولم يكنِ النبيّ إذا بقِيَ من رمضان عشرةُ أيامٍ يدَع أحدًا من أهله يطيق القيامَ إلا أقامه". وقال سفيان الثوري رحمه الله: "أحَبّ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجَّد بالليل ويجتهِد فيه ويُنهِض أهله وولده للصلاة إن أطاقوا ذلك".
هكذا كان عليه الصلاة والسلام في هذه العشر؛ تفرّغًا للعبادة وإقبالاً عليها، بل لقد كان عليه الصلاة والسلام يعتَكِف في هذه العشرِ لينقَطِع عن الدنيا ومشاغلها ويتفرَّغ لطلب ليلةِ القدر، ومِن بعده عليه الصلاة والسلام سارَت قوافلُ الصالحين المقرَّبين على ذاتِ السبيل، تقِف عند هذه العشر الغُرِّ وقفةَ جدٍّ وعزيمةٍ، ترتشف من رحيقها وتنهل من معينها وترتوِي من فَيض نميرها وتعمَل فيها ما لا تعمَل في غيرها.
هكذا كانوا رحمهم الله؛ تعظيمًا لهذه العشر الفاضلة، وهكذا كان اجتهادًا في العبادة وانقطاعًا لها في هذه الليالي المباركات.
وحُقّ لهم ذلك؛ فإن فيها ليلةً تفضُل لياليَ الدّنيا بأسرها، ليلةً العملُ فيها العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها مثلُ هذه الليلة، إنها ليلة القدر، إنها ليلةُ القدر، ليلةُ نزول القرآن: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 1-3].
وألف شهر ـ يا عباد الله ـ تعدل ثلاثًا وثمانين سنَة وثلاثَة أشهُر، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! يا له من فضلٍ عظيمٍ لا يقصِّر فيه إلا مغبون ولا يحرَمُه إلا محروم.
قال الإمام الزهري رحمه الله: "سمِّيت ليلةَ القدر لعِظَمها وقدرِها وشرَفِها ومنزلتها". إنها الليلة التي تتنزّل فيها الملائكة حتى تكونَ أكثرَ في الأرض من عدَد الحصاة. إنها الليلة التي ((من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. إنها الليلة التي من حرم خيرَها فقد حُرِم، فكيف لا نجِدُّ في طلبها؟! ولا سيما أنّ الله أخفى موعدَها وسَتَر عن عبادِه زمانَها ليرَى جِدَّهم في عبادته وتذلُّلهم بين يديه. وأرجح الأقوالِ فيها أنها في الوترِ من العَشر الأواخر، وأنها تتنقّل، وأرجَى أوتارِ العَشر عند الجمهور ليلة سبعٍ وعشرين.
وليلة القدرِ فقل: أرجاهـا ليلةُ سبعٍ وعشرين فقمْ تلقَاها
كما نصّ على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله. غير أنّ القولَ بتنقُّلها بين ليالي أوتارِ العشر هو الأظهر جمعًا بين الأخبار. فينبغي على المسلم أن يجتهدَ في هذه العشرِ كلِّها ليدركَ ليلةَ القدر. قال أهل العلم: "وإنما أخفَى الله عزّ وجلّ موعدَ هذه الليلة ليجتهدَ العبادُ في العبادة، وكي لا يتّكلوا على فضلها ويقصّروا في غيرها، فأراد منهم الجدَّ في العمل أبدًا".
إنها ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، خفيَ تعيينها اختبارًا وابتلاءً؛ ليتبين العاملون وينكشف المقصِّرون، ومن حرص على شيء جدّ في طلبِه وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنها ليلةٌ تجري فيها أقلامُ القضاء بِإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، ولا يهلِك على الله إلا هالك.
وقد جاءَ في الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلة هي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعفُ عني)). اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفوَ فاعفُ عنّا.
أمّةَ الإسلام، ويجمُل الصيامُ والقيامُ والدعاءُ وتتوافرُ أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترِن بسنّة الاعتكاف، فقد اعتكف المصطفى هذه الأيامَ حتى توفّاه الله.
عجيبٌ أمر هذا الاعتكاف في مقاصِده وغاياتِه، المعتكِف ذِكرُ الله له نِعمَ الأنيس، والقرآن له خيرُ جَليس، والصلاةُ قرّة عينه وراحتُه، ومناجاة الحبيبِ شُغلُه ومتعتُه، والدّعاءُ والتضرّع شعارُه ولذَّته.
فيا أيّها الأحبّة في الله، هذه أيّامُ العشر المباركة كالتّاج على رأس الزمان، فراعوا حقَّ هذه الأيام، فوالله لليلةُ القدر لا يكثُر في طلبها عشرُ، لا بالله ولا شهر، لا تالله ولا الدّهر، ليلةُ القدر يفتَّح فيها الباب ويقرَّب فيها الأحباب ويُسمع الخطاب ويردّ الجواب، إنها ليلةٌ ذاهبةٌ عنكم بأفعالكم وقادمةٌ عليكم غدًا بأعمالكم.
فيا ليت شعري، يا ليت شعري ماذا سنودِعها؟! وبأي الأعمال نودِّعها؟! أتراها ترحَل حامدةً منا الصنيع أم ذامّةً التفريط والتضييع؟! هذا أوان السباق فأين المسابقون؟! هذا أوانُ القيام فأين القائمون؟!
يا رجالَ الليلِ جِدُّوا رُبّ صوتٍ لا يُردُّ
لا يقـوم الليلَ إلا منْ لهُ عزمٌ وجِـدُّ
أليسَ من عجبٍ أنَّ فئامًا منَ الناس أغفَلُ ما يكونون في زمانِ الجد والاجتهاد؟! أليسَ من الغريبِ أنّ الكثيرين لا يحلُو لهم التسوّقُ إلا في هذه الأزمنة النفِيسَة؟! أليس من الأعجَب أنّ أقوامًا يكونون أكثرَ ولعًا بمشاهدة القنواتِ الفضائية في هذه الأيام العظيمةِ والليالي الشريفة؟! أين نحن من قومٍ كانوا أمضاءَ عبادةً وطاعَة في تجافٍ عن مسالك التفريط والإضاعة؟!
عُذرًا أيا العشْرُ الأواخِر هكذا وحَلَ الطريقُ وغاصتِ الأقدامُ
أقبلتِ حيَّ هـلا لعلّ قلوبَنـا تصفُو ويصحُو حين جئتِ نيامُ
ولعـلّ مليـارًا يزيلُ غثـاءَه ليصوغَ أمـنَ العالم الإسـلامُ
غيرَ أنه لا يمكن أن يَنسَى المسلمون في جديدِ التحديات والصّراعات قضيتَهم الكبرى، قضيةَ فلسطين والأقصى، لا سيما وهي تمرّ في هذه المرحلةِ بمنعطفٍ خَطيرٍ في ظلّ الحصارِ والهدم في محيطِ الأقصى الجريح والتوسّع من قِبَل الصهاينة المعتَدين في بناءِ المستوطنات والخلافِ بين الإخوة والنزاعات؛ ممّا يقوِّض فُرَصَ السّلام والاستقرارِ في المنطقة، فالله المستعان.
أمّةَ العطاء والمواساة، ويجدُر التذكير في هذا الشهر الكريم بفريضةِ الزكاة، فهي قرينة الصلاة في كتاب الله، فأدّوها ـ يا رعاكم الله ـ طيبةً بها نفوسكم، ولا تبخَلوا بمال الله الذي آتاكم.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستثمِروا هذه اللياليَ الغُرّ بالأعمال الصالحة، واغتنِموا واجتهدوا وأبشروا وأمّلوا.
يـا ربِّ عبدُك قدْ أتـاكَ وقدْ أسـاءَ وقـدْ هفَـا
يكفيْـه منـكَ حيـاؤهُ مِنْ سـوءِ ما قدْ أسلفَـا
يـا ربِّ فاعفُ وعـافِه فلأنـتَ أولَى منْ عفَـا
نفَعَني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلماتِ من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
|