أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وراقبوه, واعلموا أن أفضلَ الناسِ أكثرُهُم للموت ذِكْرا, وأحسَنُهم لما بعدَه استعدادًا.
وإن من أفضلِ ما يستعد به المرءُ استغلالَه لمواسم الخير, والتي منها العشرُ الأواخرُ من رمضان, فإن لياليها أفضلُ ليالي العام, وفيها ليلةٌ خير من ألف شهر, والعبادة فيها خير من العبادة ألف شهر فيما سواها. فحريٌّ بالمؤمن أن لا يفرّط في هذه الليالي, وأن لا يفتح بابًا للشيطان في التهوين من شأنها, فهي ليالٍ فاضلة, إنْ مَضَت على المؤمن دون أن يستغلها فإنه محروم؛ لأنه فوَّت على نفسه أسبابًا كثيرة لتكفير الذنوب ومضاعفة الحسنات والعتق من النار, وفوق ذلك أنه قد لا يدرك هذه الليالي في العام المقبل.
ومن كان مقصرًا فيما مضى من أيام رمضان أو مُفَرِّطًا ومذنبًا فلا يجوز له أن يقنط من رحمة الله، ولا يجوز له أن يقول: ما دمتُ قد فرَّطتُ في أكثرِ أيامِ الشهر فلن أستفيد منه فيما بقِي. فإن هذا هو القنوط الذي حرَّمَه الله ونهى عنه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وهذه الآية حُكْمُها باقٍ ما دمتَ على قيد الحياة, ما لم تبلغ الروحُ الحلقوم أو تطلع الشمسُ من مغربها.
فاحمدِ اللهَ الحليمَ العليمَ التوابَ الغفورَ الرحيمَ على ذلك، وأَقْبِل على اللهِ بقلبٍ نادم ومُخلِص وعزيمةٍ صادقة, فإن التوبة النصوح تجُبُّ ما قبلها, يقول النبي : ((التوبةُ تَجُبُّ ما قبلها)).
عباد الله، كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره, ويجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها, فيعتكف فيها, ويَشُدُّ مِئزَرَه, وَيُحْيِي ليلَه, ويوقظُ أهله, وما ذاك إلا لفضل هذه الليالي, وطمعًا في موافقة ليلةِ القدر التي شَرَّفَها الله وبارك فيها.
فهي الليلة التي يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يُفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله سبحانَه في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَةِ المتْقَنَةِ التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ ولا باطلٌ, ذلك تقديرُ العزيز العليم.
وهي الليلة التي نزل فيها القرآن العظيم, والملائكة فيها أكثر من الحصى؛ لكثرة بركتها ونزول الرحمة فيها, وهي سلام للمؤمنين من كُلِّ مَخُوف لِكَثْرَة العتقاء فيها من النار, والسالمين من العذاب.
وعبادة المسلم لله في هذه الليلة خير من العبادة ألف شهر فيما سواها من الليالي, إلا في حالة واحدة, وهي ما إذا وقف العبد مجاهدًا في سبيل الله, لقوله عليه الصلاة والسلام: ((موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود)).
عباد الله، من رحمة الله بعباده أن أخْفَى عليهم عِلْمَ ليلة القدر, فقد ثبت في السُّنَّةِ أنها وافقت ليلة أحدى وعشرين, وثلاث وعشرين, وخمس وعشرين, وسبع وعشرين, وتسع وعشرين.
كُلُّ ذلك رحمةً بِعِبَادِه ليَكْثُر عملُهم في طلبها في ليالي العشر بالصلاةِ والذكرِ والدعاءِ, فيزدادُوا قُرْبةً من الله وثوابًا، وأخفاها اختبارًا لهم أيضًا ليتبيّنَ بذلك مَنْ كانَ جادًّا في طلبها حريصًا عليها مِمَّنْ كانَ كسلانَ متهاونًا، فإنَّ مَنْ حرصَ على شيءٍ جدَّ في طلبِه وهانَ عليه التعبُ في سبيلِ الوصولِ إليهِ والظَفر به.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, واغفر لنا ولوادينا ولجميع المسلمين, إنك أنت الغفور الرحيم.
|