الحمد لله امتن علينا بنعم كثيرة والآء عظيمة فلك اللهم الحمد على كل نعمة أنعمتها علينا، والصلاة والسلام على رسولنا وقدوتنا محمد بن عبد الله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر الصائمين.
عباد الله، مضى ثلثا هذا الشهر العظيم، اجتهد فيها من اجتهد بالعبادة والطاعة، والتقرب إلى الله سبحانه بالحسنات والأعمال الصالحات، مقتفيًا بذلك هدي قدوة الأمة نبينا محمد ، الذي كان أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وعازمًا على الصيام والقيام إيمانا بالله وتصديقًا بوعده واحتسابًا للأجر المتحصل على هذه الأعمال الفاضلة، وقد قال الصادق المصدوق مبشرًا لمن هذا صفته وذلك عمله: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري، وقال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وبقي ثلثه الأخير، وعشره المباركات، والتي كان نبينا يحتفي بها، ويقدمها على غيرها، بل ويتفرغ للعبادة فيها، كل ذلك حرصًا منه وهو يبني منهجًا لأمته بأن تجعل من تلك الأيام والليالي معالم في طريق التقرب إلى الله، وإضاءات في طريق المسابقة إلى الخيرات، ومنارات في طريق المنافسة في الطاعات، وعلامات في المسارعة للحسنات، ومن أبرز تلك المعالم ما يلي:
أولاً: جدّه واجتهاده :
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم. وقالت أيضًا رضي الله عنها فيما رواه الإمام مسلم: كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجدَ وشد المئزر.
والجدّ هو: بذل الجهد في طلب الطاعات أو في فعلها، أي: بذل ما يمكنه من الوسع، وذلك يستدعي أن يأتي الطاعة بنشاط ورغبة وصدق ومحبة، ويستدعي أن يبعد عن نفسه الكسل والخمول والتثاقل وأسباب ذلك، ففي أي شيء يكون هذا الجدّ؟
الجد في الصلاة فيصلي في الليل والنهار ما استطاع. والجد في القراءة أن يقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع وقلب حاضر. والجد في الذكر أن يذكر الله ولا ينساه، ولا يزال لسانه رطبا بذكر الله. والجد في الدعاء أن يدعو ربه تضرعا وخفية وأن يكثر من الدعاء. والجد في الأعمال الخيرية المتعددة من النصائح والعبادات، وما أشبه ذلك. والجد في العلم والتعلم وما يتصل بذلك، أي: الاجتهاد في الأعمال كلها.
ثانيًا: عنايته الخاصة بليالي العشر:
ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وفي المسند عنها رضي الله عنها قالت: كان النبي يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "(وأحيا ليله) أي: سهره بالطاعة"، وقال الإمام النووي رحمه الله: "أي: استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها"، وقال في عون المعبود: "أي: بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن".
ثالثًا: تحريه لليلة القدر:
ليلة القدر ليلة عظيمة مباركة، قال الله تعالى عنها: إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ [سورة القدر]. وقال النبي : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.
وقد أخبر النبي أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأن أوتار العشر أرجى من غيرها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في كل وتر))، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله أن هذه الليلة متنقلة في العشر، وليست في ليلة معينة منها دائمًا، فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون في ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون في ليلة خمس وعشرين، وقد تكون في ليلة سبع وعشرين وهي أحرى الليالي، وقد تكون في تسع وعشرين، وقد تكون في الأشفاع. فمن قام ليالي العشر كلها إيمانًا واحتسابًا أدرك هذه الليلة بلا شك، وفاز بما وعد الله أهلها.
رابعًا: عنايته الخاصة بأهله:
ثبت في الصحيحين قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان النبي إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره. وهذه العناية منه بإيقاظ أهله رضوان الله عليهم لها دلالتها البالغة، مع شده لمئزره واعتزاله النساء ليتفرغ للعبادة والطاعة.
إن هذه العناية بأمر الزوجة والأهل والأولاد تجعل من البيت المسلم يعيش في روحانية رمضان هذا الشهر الكريم، فعندما يقبل الأب والأم والأبناء والبنات على الصلاة والعبادة والذكر وقراءة القرآن، ولنحفزهم على ذلك الخير فمن دعا إلى هدى كان له من الخير والأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
نقل الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في لطائف المعارف عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قال: "أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلي الصلاة إن أطاقوا ذلك".
اللهم إنا نسألك إيمانًا كاملاً ويقينًا خالصًا.
أقول ما سمعتم...
|