عباد الله، ها هو شهر رمضان، شهر الإحسان وتلاوة القرآن، وشهر المغفرة والعتق من النيران يتهيأ للرحيل والزوال، تصرمت ساعاته، وانقضت لياليه وأيامه كغيرها من الليالي والأعوام التي مرت علينا وكأنها أضغاث أحلام.
أيها المسلمون، مضت أكثر أيام شهركم، وانقضت لياليه شاهدة عليكم بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، تدعون يوم القيامة يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، فينادي ربكم سبحانه: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) أخرجه مسلم.
عباد الله، هذا هو شهركم وهذه نهايته، ولربما يكون هذا الشهر آخر شهر يصومه بعضنا، فكم من مستقبل لرمضان لم يستكمله! وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركه! وتلك الأيام نداولها بين الناس.
أيها المسلمون، لئن مضى من شهركم الكثير فقد بقي فيه بقية، بقيت من شهركم العشر الأواخر التي كان النبي يحتفي بها أيما احتفاء، يزيد فيها من العبادة ما لا يزيد في غيرها من أيام وليالي الشهر، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. رواه البخاري. وكانت تقول رضي الله عنها كما عند مسلم: كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها.
عباد الله، لقد كان السلف الصالح من أسرع الناس امتثالا واتباعا للنبي في اغتنام العشر، فكان كثير منهم يجتهدون في ليالي العشر اجتهادًا عظيمًا، وكان بعضهم يغتسل كل ليلة ليكون أنشط له في العبادة، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه؛ ليخلو في محرابه يدعو الله ويعبده وهو في أكمل هيئة وأبهى صورة، يقول سفيان الثوري: "أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يجتهد بالليل، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك".
عباد الله، كان نبيكم يحرص في العشر الأواخر من رمضان على الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان، وجاء عنه أنه قال: ((من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)) رواه الطبراني في الأوسط.
أيها المسلمون، المعتكف ذكر الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته، إذا أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه، وحبس من أجله نفسه، يقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، تقول عائشة رضي الله عنها: (السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجته التي لا بد منها، ولا يعود مريضًا، ولا يمس امرأته، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، والسنة لمن اعتكف أن يصوم) اهـ. ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "شرع الله الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه يوم الوحشة في القبور حيث لا أنس له يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم".
اللهم وفقنا لاغتنام الخيرات، وضاعف لنا الدرجات.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
|