أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا هذه الليالي الفاضلة بطاعة الله تعالى؛ فإنها موسم من مواسم الآخرة عظيم، والربح فيها كثير، وعفو الله تعالى فيها كريم، ويعتق خلقًا كثيرًا من النار، ولا يفرط في طلب ذلك إلا محروم، نعوذ بالله تعالى من الحرمان، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48].
أيها الناس، هذه الليالي العظيمة هي ليالي الصلاة والدعاء والقرآن، هي ليالي الربح الكبير بعمل قليل، هي الليالي التي اختصها الله تعالى بأفضل ليلة وأشرفها، وإحياءُ هذه الليالي ليس كإحياء غيرها؛ ولذا اجتهد النبي فيها اجتهادًا لم يجتهده في سواها كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي إذا دخل الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. وظاهر الحديث أنه كان فيها يحيي الليل كله بطاعة الله تعالى.
لقد كان من هدي نبينا محمد المداومة على قيام الليل امتثالاً لأمر الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [الإسراء: 79]، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [المزمل: 2]، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان: 26]، فما ترك مناجاة ربه عز وجل في ليله والناس نيام؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها لعبد الله بن قيس: لا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ فإن رَسُولَ الله كان لا يَدَعُهُ وكان إذا مَرِضَ أو كَسِلَ صلى قَاعِدًا. رواه أبو داود.
كان يقوم الليل حتى في أسفاره ومغازيه رغم ضيق الوقت ورهق السفر وشدة الطريق وقلة الراحة، وفي رمضان من السنة الثانية خرج إلى بدر لملاقاة المشركين، وذات ليلة رمقه علي رضي الله عنه فأخبر عنه فقال: ما كان فِينَا فَارِسٌ يوم بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وما فِينَا إلا نَائِمٌ إلا رَسُولَ الله تَحْتَ شَجَرَةٍ يصلي ويبكي حتى أَصْبَحَ. رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
لقد تحمل أعباء الرسالة وبلاغها وإدارة شؤون الأمة ومشاكلها، وما أقعده ذلك عن مناجاة ربه عز وجل في الليل، فيقوم من الليل قيامًا طويلاً، وصفه من رآه من الصحابة رضي الله عنهم فقال الْمُغِيرَةُ رضي الله عنه: إن كان النبي لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حتى تَرِمُ قَدَمَاهُ أو سَاقَاهُ، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان يَقُومُ من اللَّيْلِ حتى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله يقوم يصلي حتى تنتفخ قدماه. ولما فرض قيام الليل في أول الإسلام قَامَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً حتى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ الله عز وجل خَاتِمَتَهَا في السَّمَاءِ اثني عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أنزل الله عز وجل التَّخْفِيفَ في آخِرِ هذه السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ رسول الله اللَّيْلَ تَطَوُّعًا من بَعْدِ فريضة. رواه أحمد.
وكان يبدأ تهجده بركعتين خفيفتين وأمر بذلك، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: كان رسول الله إذا قام من اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. رواه مسلم.
وشَرُفَ بعض الصحابة بالصلاة مؤتمين به في جوف الليل، فوصفوا ما رأوا من قيامه وتهجده فإذا هو عَجَبٌ عجاب: صلاةٌ طويلة طويلة لا يطيقها سواه، وتدبرٌ عجيب لا يكون مثلُه من غيره ، قال حُذَيْفَةُ بن اليمان رضي الله عنهما: صَلَّيْتُ مع النبي ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فقلت: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فقلت: يُصَلِّي بها في رَكْعَةٍ فَمَضَى، فقلت: يَرْكَعُ بها، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إذا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يقول: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ))، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا من قِيَامِهِ، ثُمَّ قال: ((سمع الله لِمَنْ حَمِدَهُ))، ثُمَّ قام طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فقال: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى))، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا من قِيَامِهِ. رواه مسلم. فمن من الناس يطيق أن يقرأ بترسل وتدبر في ركعة واحدة البقرة والنساء وآل عمران؟!
وفي قصة أخرى قال عَوْفُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: قُمْتُ مع رسول الله فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قام يصلي وَقُمْتُ معه، فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ، لاَ يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلا وَقَفَ فَسَأَلَ الله، وَلاَ يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلا وَقَفَ يَتَعَوَّذُ، ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ رَاكِعًا بِقَدْرِ قِيَامِهِ يقول في رُكُوعِهِ: ((سُبْحَانَ ذي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ))، ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ سُورَةً فَفَعَلَ مِثْلَ ذلك. رواه أحمد.
وربما أطال في القيام طولاً لا يحتمله غيره كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: صَلَّيْتُ مع رسول الله فَأَطَالَ حتى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قِيلَ: وما هَمَمْتَ بِهِ؟ قال: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ. رواه الشيخان.
وربما قَسَم سورة البقرة في ركعتين كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها.
ومن شفقته بأمته وحرصه عليها أنه بات ليلة يردد آية حتى أصبح يشفع بترديدها لأمته عند الله تعالى، كما روى أبو ذَرٍّ رضي الله عنه قال: صلى رسولُ الله لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حتى أَصْبَحَ يَرْكَعُ بها وَيَسْجُدُ بها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [المائدة: 118]، فلما أَصْبَحَ قلت: يا رَسُولَ الله، ما زِلْتَ تَقْرَأُ هذه الآيَةَ حتى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بها وَتَسْجُدُ بها! قال: ((إني سَأَلْتُ ربي عز وجل الشَّفَاعَةَ لأمتي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِىَ نَائِلَةٌ إن شَاءَ الله لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بِالله عز وجل شَيْئًا)) رواه أحمد. لقد قام ليلة كاملة بآية واحدة من أجل أن يشفع لنا عند الله تعالى؛ رحمة بنا وخوفًا علينا، فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيًا عن أمته.
وكان تهجده في رمضان وفي غيره سواء من جهة عدد الركعات، إلا أنه كان إذا دخل العشر أحيا ليله، سُئلت عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَيْفَ كانت صَلاةُ رسول الله في رَمَضَانَ؟ فقالت: ما كان يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولا في غَيْرِهِ على إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا. متفق عليه.
ولما ثَقُلَ صار يجلس في صلاة الليل ولم يترك مناجاة ربه عز وجل، أخبرت عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ الله كان يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وهو جَالِسٌ، فإذا بَقِيَ من قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ من ثَلاثِينَ أو أَرْبَعِينَ آيَةً قام فَقَرَأَهَا وهو قَائِمٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ سَجَدَ، يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذلك. رواه الشيخان.
فحري بأهل الإيمان والقرآن أن يقتدوا بالنبي في قيام الليل، ومناجاة الله تعالى فيه، وتدبر كتابه، والإلحاح في دعائه؛ ولا سيما في هذه الليالي المباركة التي فضلها الله تعالى على سائر الليالي، وجعلها موضعًا لليلة القدر.
جعلنا الله تعالى والمسلمين من الفائزين بها، ومنَّ علينا بالاجتهاد والإخلاص، وتقبل منا ومن المسلمين، إنه سميع قريب.
وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله...
|