.

اليوم م الموافق ‏22/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الصديق الأول رضي الله عنه

6133

سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد

الصحابة, تراجم

بلال بن عبد الصابر قديري

جدة

26/10/1419

جامع الغبيشي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- حال العرب في الجاهلية. 2- فضل الصحابة. 3- فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 4- مناقب أبي بكر بعد النبي .

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله ربكم, فتقواه عدة ليوم المعاد، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم , فالتمسك بها جهاد من أعظم الجهاد, والزموهما كلما تكاثرت الفتن وتشعبت السبل واستشرى الفساد, فهي النجاة غدًا والسعادة أبدًا.

أيها الناس، عاش العالم بأسره في جاهلية جهلاء طيلة قرون متلاحقة, كانت العرب تعيش فيه جهلاً وضلالاً ما بعده ضلال, وأدٌ للبنات, وأكلٌ للربا, وقتلٌ للأنفس بغير حق, لم يكن عندهم من تاريخهم سوى أخبار عنترة وصحفة حاتم الطائي وأشعار التفاخر التي كانوا يتفاخرون بها في أسواقهم بعكاظ وذي المجار ومِجَنَّة من كلِّ عام, ذلك تاريخهم, وتلك هي مفاخرهم, سوى قلة من الباقين على الحنيفية السمحة ملة الخليل إبراهيم، وقليل من الأخلاق الكريمة والشيم العالية التي لم تزل باقية فيهم وظاهرة في سلوكهم, حتى أذن الله للنُّور أن ينبعث وللحق أن يظهر ببعثة سيد الخلق وحبيب الحق محمد ، فجاء بالمكارم, وحث على الفضائل, ونهى عن النقائص والرذائل, وهو القائل: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني. ولئن جاءنا أحد ممن يهرف بما لا يعرف ويتقوَّلُ بما لا يعلم فيتفاخر بأمجاد العرب قبل الإسلام قلنا له: مهلاً, رويدك أيها الغافل:

تاريخنا من رسول الله مبدؤه     وما عداه فلا ذكر ولا شأن

والتاريخ الحق والسيرة الصدق تبدأ من محمد , ومن الصدر الأول من صحابته الأبرار, الذين لم يشهد التاريخ مثلهم, ممن قَوِيَ بالله عزمهم, وصدقت لله نواياهم, ففتحوا الدنيا في بضعِ سنين, وشادوا بالقرآن وآياته نظامًا جديدًا وعالمًا فريدًا, وهذا ـ وربك ـ الإعجاز في الإنجاز، ويقود هذا الإعجاز إلى إعجاز آخر يتمثل في سيرهم الذاتية التي صاغ الدين فضائلها وهذب القرآن سجاياها, فعاشوا مع النبي , فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]. نفوس صدقت في إيمانها, وأخلصت لله نياتها, فحرروا البشرية من وثنية العبودية وتيه الضمير وضلال المسير وضياع المصير.

وفي هذه الأيام المتأخرة غفل الناس وطوى النسيان عند آخرين نهجًا سليمًا وموردًا عذبًا فريدًا, ذلكم هو قراءة سير الصحابة والاقتداء بهم وتناقل أخبارهم، لا سيما وقد شُغِلَ الناس واشتغلوا بتوافه من سير السابقين واللاحقين ممن لم ينالوا من تلك الفضائل قنطارًا ولا قطميرًا.

وتشتدّ الحاجة إلى الوقوف أمام سيرهم وتراجمهم حين نتذكر أن معرفة تلك السير والفضائل عبادة نتقرب إلى الله بها, وأنها سبب لمحبتهم, وقد قال رسول الله : ((المرء مع من أحب)) متفق عليه. ويتأكد الفضل للخلفاء الأربعة لسابقتهم في الإسلام وبلائهم وجهادهم، قيل للحسن بن علي رضي الله عنهما: حبّ أبي بكر وعمر من السنة؟ قال: لا بل فريضة. ونقل اللالكائي بسنده عن مالك قوله: "كان من قبلكم يعلّمون أبناءهم حبّ أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السورة من القرآن".

كيف لا وقد جاءت الوصية النبوية واضحة المعالم في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي فقال: ((إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي)) وأشار إلى أبي بكر وعمر. رواه الترمذي بسند حسن. وقد روى الطبراني والحاكم وصححه الألباني عن عبد الله بن حنطب أن رسول الله رأى أبا بكر وعمر فقال: ((هذان السمع والبصر)). وجاء في ترجمة أبي جعفر الصادق رحمه الله أن سالم بن حفصة سأله وسأل أباه جعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقالا له: يا سالم، تولاهما وابرأ من عدوّهما, فإنهما كانا إمامي هدى, قال سالم: وقال لي جعفر بن محمد: يا سالم أيَسُبُّ الرجل جده؟! أبو بكر جدّي, لا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما. ولا يقولن جاهل: هذا تَقِيَّةٌ منه؛ إذ دينهم التقوى لا التقيَّة. وقد كان السلف يتواصون بحب الشيخين, قال شعيب بن حرب: قلت لمالك بن مغول: أوصني؟ قال: أوصيك بحب الشيخين: أبي بكر وعمر, فوالله إني لأرجو لك في حبهما ما أرجو لك في التوحيد.

ولأجل هذا كله فهذه وقفة مع سيرة رجل من هؤلاء الأفذاذ, رجل لا كالرجال, إنه الصديق أبو بكر خليفة رسول الله الأوَّل, والمؤمن برسول الله من الرجال الأُوَلْ, رضي الله عنه وأرضاه, وجزاه عن المسلمين خيرًا, سبق إلى الإيمان, وبادر إلى الرفقة, ولازم الصحبة, واختص بالمرافقة في الغار والهجرة، ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]. وكما كتب الله لأبي بكر أن يكون ثاني اثنين في الإسلام فقد كتب له أن يكون ثاني اثنين في غار ثور, وأن يكون ثاني اثنين في العريش الذي نُصِب للرسول يوم بدر, فمن سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر, كيف لا وقد أعلن المصطفى وهو على المنبر: ((إن أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر, ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً, ولكن أخوَّةُ الإسلام ومودته, لا يبقي باب في المسجد غير باب أبي بكر)) رواه البخاري, ومما انفرد البخاري بروايته: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق, وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!)). ويزيد الأمر وضوحًا ووضاءً قوله عليه الصلاة والسلام: ((ما لأحد عندنا يد إلا وكافيناه بها ما خلا أبا بكر, فإن له يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة, وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر)) رواه الترمذي وصححه الألباني.

أبو بكر ذو المروءة والكرامة, لم يشرب الخمر في الجاهلية أبدًا, وقد سُئِل عن ذلك يومًا فقال: كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي.

واسمعوا خبرًا من أخبار أبي بكر, يقول ربيعة الأسلمي: جرى بيني وبين أبي بكر كلام, فقال لي كلمة كرهتها, وندم أبو بكر عليها فقال: يا ربيعة، ردَّ عليَّ مثلها حتى تكون قصاصًا, قلت: لا أفعل, قال: لتقولن أو لأستعدينّ عليك رسول الله , فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله , وجاءني ناسٌ من قومي فقالوا: رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال لك ما قال؟! فقلت: أما تدرون من هذا؟! هذا أبو بكر, ثاني اثنين, وهو ذو الشيبة في الإسلام, لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب, فيأتي رسول الله يغضب لغضبه, فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة، وانطلق أبو بكر وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله ، فحدثه الحديث كما كان، فرفع رسول الله رأسه وقال: ((ما لك وللصديق؟)) فقلت: يا رسول الله، كان كذا وكذا، فقال أبو بكر كلمة كرهتها, وطلب مني أن أقول كما قال حتى يكون قصاصًا، فأبيت، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أجل لا تردّ عليه, وقد غفر الله لك يا أبا بكر)).

أبو بكر هو الصديق كما لقبه إذ صعد الجبل يومًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان, فرجف بهم الجبل فقال: ((اثبُت أحد, فإنما عليك نبيٌ وصدّيقٌ وشهيدان)). هذا هو أبو بكر وهذه منزلته في الإسلام، ومع هذا كان يكره أن يمدحه مادح فكان يقول: (اللهم أنت أعلم مني بنفسي، واغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني أحسن مما يظنون).

أيها المسلمون، ما بلغ أبو بكر هذا المبلغ العظيم من الإسلام والسُمُوّ فيه إلا بإيمان صادقٍ وقر في قلبه وأعمال صالحة ترجمها على جوارحه, وتأمَّلُوا في خصال اجتمعت فيه في يوم واحد, قال رسول الله يومًا لصحابته: ((من أصبح اليوم منكم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا, قال: ((فمن تبع منكم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا, قال: ((هل فيكم من عاد مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا, قال: ((هل فيكم من تصدق بصدقة؟)) فقال أبو بكر: أنا, قال رسول الله : ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم.

واعلموا ـ أيها الناس ـ أن أبا بكر رضي الله عنه بمبادراته الجميلة وعباداته المتنوعة يُدعى لدخول الجنة لا من باب واحد, بل من أبواب الجنة جميعها, فلقد عدد رسول الله أبواب الجنة فكان مما قال: ((من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد, ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)), فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة, هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال : ((نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)) متفق عليه. فلا جرم إذًا إذا قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب: ما سابَقْنا أبو بكر إلى خير قط إلا سبقَنا عليه, رضي الله عنهم أجمعين.

أمة الإسلام، هذا هو أبو بكر الصديق, خير من وطئ الأرض بعد النبيين, وأول من يدخل الجنة من أمة محمد قال : ((أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)).

ولا تقف الفضائل والخصائص مع أبي بكر إلى هذا الحد, بل لها مشوار طويل مع هذا الصحابي الجليل الذي شهد المشاهد كلها, وكانت الراية معه يوم تبوك، ولم تذكر له هزيمة قط في ساعة من ساعات الشدة, لا في أحدٍ ولا في الخندق ولا في حنين, لا يثبت أحد حيث يصعب الثبات إلا كان هو أول الثابتين, لم يفارق النبي حضرًا ولا سفرًا.

والحديث يطول في سيرة لا ينقضي منها العجب, ولكن هل تعي الأمة في أوقات الفتن المجيد من تاريخها؟! أم هل يعي شبابها أن روح التاريخ يكمن في سير الرجال الأفذاذ؟! ولكن ما الحيلة إذا كان الرجال لا يقدِّرون الرجال، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رفع قد أولي الأقدار, أحمده سبحانه وأشكره على فضله المدرار, وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار, وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار, صلى الله وسلم عليه تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فكما ثبت أبو بكر في المشاهد والغزوات وكما نصر الله به الدين منذ فجر النبوَّة فقد نصره يوم عزَّ الناصر, فلا تنسى الأمة له موقفه أمام سيل المرتدين, حين نصر الله به الدين يوم الردة, لمَّا أصبحت صلاة الجمعة لا تقام إلا في مكة والمدينة والطائف, فكانت الوقفة وكان الانتصار: (والله، لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة), وهذا نزر من سيرته وقليل من حياته كي تعي الأمة الدرس وتفقه الواقع والحقيقة.

أمة الإسلام، قد وُجِدَ من قبلُ ومن بعدُ أناسٌ طمس الله أعينهم عن الحق, وأزاغ بصيرتهم عن الصدق, ففضلوا على أبي بكر غيره من الصحابة, ووصل الحال ببعضهم كما الحال مع الرافضة من غلاة التشيُّع لعليٍ رضي الله عنهم أجمعين ـ وعليٌ منهم براء ـ أن يسبوا الشيخين, ويقولون: لا ولاء إلا ببراء, أي: لا ولاء لآل البيت إلا بالبراء من الصحابة, وما كان بين آل البيت والصحابة إلا كل خير, وعلامات الوداد بينهم ظاهرة, كالتسمي بأسماء الشيخين والتزوُّج منهم وتزويجهم, ثمَّ ألم يسمعوا قوله : ((لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه))، ومعلوم أن منزلة الشيخين والعُمَرَيْن من النبي في حياته كانت بمنزلتهما منه بعد مماته, فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].

وقد أحسن من قال:

إنِّي أحب أبـا حفصٍ وشيعته  كما أُحِبُّ عتيقًا صاحب الغـار

وقد رضيت عليًا قدوةً علمًـا  وما رضيت بقتل الشيخ فِي الدار

كل الصحابة ساداتي ومعتقدي  فهل عليَّ بهذا القـول من عـار

هذا ما تيسَّر إيراده, وأعان الله على إعداده, جعله الله خالصًا لوجهه الكريم, ونفع به يوم لقاه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً