عباد الله، بغروب شمس هذا اليوم المبارك يودع المسلمون في أنحاء العالم فريضة الحج لهذا العام، تلكم الفريضة التي عظمت في مناسكها، وجلت في مظاهرها، وسمت في ثمارها، إنها فريضة الحج، عظيمة المنافع، جمة الآثار، تضمنت من المصالح ما لا يحصيه المحصون ولا يعده العادون، تضمنت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمها وأزكاها، مقاصد تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبد، وعلى الدعوة لانتظام شمل المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكية للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان.
قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله جل وعلا، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات).
عباد الله، إن من أبرز دروس هذه الفريضة تلكم المحبة التي جعلها الله تعالى لبيته الحرام في قلوب عباده، يستنفرهم البيت من كل فج رجالاً أو ركبانًا. وهذه المحبة فطرها المولى سبحانه في قلوب عباده كما قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه ابن جرير وغيره: (لا يقضون منه وطرًا، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه)، وأنشد القرطبي في هذا المعنى قول الشاعر:
جعـل البيـت مـثـابًـا لهـم ليس منـه الدهر يقضون الوطر
وأنشد غيره في الكعبة:
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتَّى يعود إليها الطرف مشتاقا
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم رحمه الله: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، وهو يأرز بين المسجدين))، وفسر ((يأرز)) بمعنى: ينضم ويتجمع، وفي معناه العام ما يفيد تعلق قلوب المسلمين بمشاعرهم.
عباد الله، لا تزال الأفئدة تهوي إلى ذلكم البيت، وتتوق إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر، والفقير المعدم، مئات الألوف من هؤلاء وهؤلاء يتقاطرون من أصقاع الأرض ليلبوا نداء إبراهيم عليه السلام الذي نادى به منذ آلاف السنين: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
فيا لله! لكم اشتاقت لبطحاء مكة النفوس، وهفت لربها القلوب، وكم من متحسّر يتمنى المبيت ليلة بمنى، أو الوقوف ساعة بعرفة، أو مشاركة الحجيج مبيتهم بمزدلفة، أو المزاحمة عند الجمرات، أو الطواف بالبيت وسكب العبرات.
هذا الخيـف وهاتيـك منى فترفق أيهـا الحـادي بنا
واحبس الركب علينا ساعة نندب الربع ونبكي الدمنا
فلذا الموقف أعددنا البكـا ولذا اليوم الدموع تقتنَى
الكثير يتمنى هذه المواطن والبطاح حيث تنزل الرحمات وتقال العثرات وتسكب العبرات وتجاب الدعوات.
ما على حادي المطايا لو ترفق ريثمـا أسكب دمعـي ثم أعنق
هـذه الدار التي يعـرفهـا بالْهوى من أهله من كان أشوق
عباد الله، ومن دروس الحج أيضًا تذكير الأمة بأن أعظم ما يجب أن تهتم به وأن تحافظ عليه وأن تغرسه في النفوس تحقيق التوحيد لله سبحانه، وتحقيق الغاية القصوى في الخضوع والتذلل له عز شأنه توجهًا وإرادة قصدًا وعملاً، ولذا افتتح النبي حجته بالتوحيد كما يقول جابر رضي الله عنه: فأهل بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)).
وكذلك الأنبياء من قبل كانوا يلهجون بالتوحيد ويلبون به، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي مر في حجه بوادي الأزرق فقال: ((أي وادٍ هذا؟)) قالوا: هذا وادي الأزرق، قال: ((كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام هابطًا من الثنية له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية))، ثم أتى على ثنية أخرى، فقال: ((أي ثنية هذه؟)) قالوا: ثنية كذا وكذا، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة من صوف وهو يلبي)).
عباد الله، إن الواجب علينا جميعًا استحضار ما دلت عليه هذه الكلمات من معنى، ومعرفة ما تضمنته من دلالات، وعلى المسلم أن يكون على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلها، محافظًا عليه في كل حين وآن، مراعيًا له في كل جانب، لا يسأل إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، لا يطلب المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقنا أن الخير كله بيد الله، وأزمّة الأمور بيده، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
وإذا كان الأمر كذلك في حق الأفراد فالأمة أجمع حري بها أن تستلهم من الحج تلك الدروس والعبر، ولتعلم أن القاعدة الثابتة لاستقرار حياتها هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا في مناشط الحياة كلها، وأن تحقق الخضوع التام لله والذل المتناهي له سبحانه ترسيخًا للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة وتأصيلاً لها في النفوس، وإلا فبدون ذلك تخطفها الأهواء وتتقاذفها الأوهام. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
عباد الله، إن النبي حينما يكبر الله عند كل شوط في الطواف ويكبر الله عند الصفا والمروة ويكبر الله عند رمي الجمار ويكبر الله في أيام التشريق لهو يبعث في النفوس شعورًا عميقًا لقيمة ذكر الله وتكبيره في حياة المرء المسلم، وأن كلمة الله أكبر، هي رأس الذكر وعموده، وهي أول ما كلف به النبي حين أمر بالإنذار: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.
بالذكر ـ عباد الله ـ تستدفع الآفات وتكشف الكربات وتهون به على المصاب الملمات. الذكر زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين. قال ابن عباس رضي الله عنه: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر خنس)، وقال الحسن البصري رحمه الله: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق".
عباد الله، الله أكبر كلمة عظيمة تحيي موات النفس الهامدة، ولصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم، بل إنها ـ عباد الله ـ سلاح فتاك في وجوه أعداء الملة ولصوص الأرض، وهي سيف الحروب الذي لا يثلم، كيف لا والنبي أخبر أن مدينة تفتح في آخر الزمان بهذه الكلمة؟! قال : ((فإذا جاؤوها نزلوا ـ أي: المسلمون ـ فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا في الثالثة: لا إله إلا الله والله اكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا)) الحديث رواه مسلم.
عباد الله، لما غربت شمس يوم عرفة وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص دفع النبي من عرفة وقد شنق لناقته القصواء الزمام حتى لا تسرع، وهو يقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، السكينة السكينة.
إن هذا الموقف الجليل الذي تتسابق فيه النفوس إلى الخير وهي أينما حلت في عرصات المشاعر فهي في نسك، غير أن الهدوء والطمأنينة والسكينة وعدم الاستعجال هو الشعور الإيجابي وهي الطريقة المباركة لكل نجاح أمثل، فالسكينة لا يعدلها شيء؛ إذ العجلة داء المجتمعات، وهي الألغام الموقوتة التي لا تثمر إلا الأشلاء والدمار، بل هي من مقتضيات حظوظ النفس البغيضة والجهل بالعواقب، وذلك لخروجها عن الإطار المشروع حتى في حال العبادة، يقول الباري سبحانه: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً، بل حتى أدق مواضع العبادة يقول النبي : ((إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجيب لي)) رواه البخاري مسلم.
فالعجلة ـ عباد الله ـ من الخلال المذمومة في أعمال المرء العبادية والحياتية، والواجب على العاقل أن يلزم التأني في الأمور كلها؛ لأن الزيادة على المقدار في المبتغى عيب، كما أن النقصان فيما يجب من المطالب عجز، ومن لم تصلحه الأناة فلن تنفعه العجلة، بل تضره، وصفات العجل أن يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، يعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم. المرء العجل تصحبه الندامة وتخذله السلامة، وقد كانت العرب في القديم تكني العجلة بأم الندامات، والمثل السائر: في العجلة الندامة.
قد يدرك المتأني جلّ حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورا.
|