أيها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الجمعة الماضية عما حدث لإخواننا الفلسطينيين في غزة، وكيف أن الله أكرمهم بالنصر وبكثير من الكرامات التي حيّرت عقول كثير من الناس، لا سيما اليهود وأعوانهم، كيف أن هذه الأسلحة الخفية أرعبتهم، وقلبت جميع الموازين، وأجبرتهم على إيقاف إطلاق النار، وهذا كلّه بفضل من الله ومن كراماته التي نزلها على عباده المؤمنين إذ صبروا وصدقوا مع الله، إن هذه الكرامات لا يصدّق بها كثير من بني جلدتنا، لا سيما في هذا العصر المادّي، ويدَّعون بأن الاعتقاد بها يؤدي إلى التواكل وعدم الاستعداد، وهذا الأمر مردود عليهم؛ لأن سبب نكرانهم لها هو ضعف إيمانهم ويقينهم وعدم معرفتهم لله، وأنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد.
أيها الإخوة، إن هذا النكران إن تعمّق في القلب يُخشى على صاحبه من النفاق والكفر؛ لأن الكرامات ونزول الملائكة على المؤمنين مبيّن ومتأكّد في كتاب الله حيث أنه يقول: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فالله سبحانه وتعالى يبين لنا أن إنزال الملائكة لتقاتل مع المؤمنين لغرضين رئيسين: الأول: بشرى للمؤمنين وأمل في النصر وعدم اليأس بكثرة الأعداء وعتادهم، الثاني: إنزال السكينة والطمأنينة على قلوب المؤمنين وتثبيت أقدامهم كما في قوله تعالى: وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ.
فالكرامات يربط الله بها على القلوب، ويجعلها تسكن وتطمئن وتحس وتستشعر بمعية الله، وأن هذا المجاهد ما هو إلا ستار لقدر الله، هو الذي يقاتل دونهم كما قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الآية.
كل هذا شيء يسير مما ذكر في القرآن الكريم عن الكرامات بجميع أنواعها، وأما في السنة فلقد قال لأبي بكر وهما في العريش في معركة بدر وقد رأى جبريل عليه السلام: ((أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثنايا النقع))، فرؤية النبي لجبريل أعطاه الأمل الكبير بالنصر على الأعداء.
أحبتي في الله، هذه الأدلة من الكتاب والسنة كان لها كبير الأثر على الصحابة وسلف هذه الأمة، وزادتهم إيمانًا بمعية الله، ولقد أراد ربّ العزة سبحانه أن ينبّههم إليها ولأهميتها، وأن يعلّقوا قلوبهم بربهم، فأنزلها قرآنًا يتلى آناء الليل وأطراف النهار لهم ولنا ولكل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.
أيها الناس، إن إنكار الكرامات والنصر الذي حقّقه إخواننا الفلسطينيون في غزة يأتي في الغالب من قبل المنافقين والمتمسلمين الذين يدّعون الإسلام وهم لم يعرفوه حقًا، فالمنافقون موجودون في كل زمان ومكان، فمثل هذا الإنكار حدث في عهد النبي حينما انتصر وصحبه في غزوة بدر، فكان اليهود والمنافقون يتمنون بل ويتوقعون الهزيمة للمسلمين والنصر والغلبة للمشركين، كما كان يتوقع كثير من أعداء الدين لإخواننا في غزة، وقد نظم اليهود والمنافقون قبل وصول البشير بنصر المسلمين حملة من الإرجاف وبلبلة الأفكار، وأشاعوا فيها خبر قتل النبي وتمزيق جيشه الضعيف في معركة بدر.
وبينما كان المسلمون يترقبون في تلهف وهم على أحرّ من الجمر أنباء المعركة، وبينما كانت الإشاعة والإرجاف بهزيمة المسلمين تملأ أرجاء المدينة إذا بصوت عبد الله بن رواحة وزيد بن ثابت يهزان أنحاء المدينة تهليلاً وتكبيرًا، معلنين انتصار المسلمين الكامل وهزيمة المشركين الساحقة، فعمّت البهجة نفوس المسلمين، وزالت عنهم الإشاعات الكاذبة المزعجة، لكن بالرغم من وصول البشير بنصر المسلمين حاول المنافقون واليهود تكذيب أنباء الانتصار الذي جاء به البريد النبويّ من بدر، كما يفعل العلمانيون والمتمسلمون اليوم، ويدعون بأن ما حدث في غزّة ليس نصرًا، واستمروا في إرجافهم حتى أن أحد المنافقين عندما رأى زيد بن حارثة وهو أحد المبشرين بالنصر راكبًا القصواء ناقة رسول الله قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ماذا يقول من الخوف والرعب. ولشدة الإرجاف وقوة الإشاعة بقي كثير من المسلمين متردّدين في تصديق خبر انتصار المسلمين، حتى إن أسامة بن زيد بن حارثة يقول: جئت أبي حتى خلوت به فقلت له: أحق ما تقول؟ فقال: إي والله حق ما أقول، قال أسامة: فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت له: أنت المرجف برسول الله والمسلمين، لنقدّمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك، فقال المنافق متخاذلا: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه فقلته.
أيها الإخوة المؤمنون، بالرغم من تأكيد الرسولين ابن رواحة وابن حارثة خبر نصر المسلمين وهزيمة المشركين فقد ظلّ المنافقون واليهود يقاومون ما سمعته آذانهم من بشائر الفوز، واستمروا في مكابرتهم ونكرانهم للنصر حتى أخرستهم الحقيقة عندما رأوا سهيل بن عمرو وعمرو بن أبي سفيان والعباس بن عبد المطلب والوليد بن الوليد وغيرهم من سادات مكة وقادتها مكبّلين بالحديد وقد شدّت أيديهم إلى الوراء يتعثرون في خطاهم بين أفواج أسرى المشركين، عند ذلك خرست ألسنتهم. وكذلك منافقو اليوم وأذنابهم لم يصدقوا خبر هزيمة إسرائيل حتى رأوا بأعينهم توقف القتال وانسحاب العدوّ من أراضي المعركة مجبرًا صاغرًا، فلقد كانت معركة غزة هزيمة لليهود بكلّ المقاييس مهما حاول محبوها وأعداء الإسلام أن يبرّروا توقف القتال بأيّ مبرر كان.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|