أيها المسلمون، يقول المولى سبحانه: إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا صدق الله العظيم.
لا إله إلا الله! إن إخوتنا الفلسطينيين في غزة هذه الأيام يعيشون هذه الظروف الصعبة الرهيبة التي ذكرتها الآية، والتي تزداد يومًا بعد يوم، وسبحان الله! التاريخ يُعيد نفسه، إن الذين يحاصرون إخواننا الآن في غزة هم نفس اليهود الذين حاصروا رسول الله ، وثبت هو وأصحابه حتى نصرهم الله.
فحديثنا اليوم عن غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق، إن هذه الغزوة الخطيرة المرعبة ليست في حقيقتها إلا حملة يهودية صِرفة، قد مُوِّلت بأموال يهودية، وجاءت وِفْق تصميمات مدروسة ودقيقة وضعها مفكرون وخبراء يهود تطفُح نفوسهم بالحقد القاتل على الإسلام ونبي الإسلام ، وكان هدف هذه الغزوة إبادة المسلمين وتهديم كيانهم الذي كان ينمو بشكل سريع، أقلقهم كما يقلقهم الآن نمو الحركة الإسلامية بغزة ورفضها الاستسلام والركوع لهم ولأموالهم، فرسموا مشروع غزوة كبرى تقوم بها قوة ضاربة متحدة من أقوى وأشجع القبائل العربية المعادية للإسلام، وهما قبيلتا قريش وغطفان من الحجاز ونجد، ولتحقيق هذا المشروع الخطير قام زعماء يهود بالتطواف على معظم الأقاليم العربية في الجزيرة شارحين للقبائل مشروعهم الكبير، ومثيرين فيهم روح العداوة للمسلمين، ومستخدمين سلاح المال، وهو سلاحهم الرئيسي لإغراء زعماء الأعراب وشراء ذممهم، كما يفعلون اليوم بزعماء كثير من دول العالم، ويستصدرون القرارات من مجلس الأمن التي تدين حماس وأنها منظمة إرهابية يجب القضاء عليها.
ولم يرجع وفد يهود من رحلته إلا وهو على رأس عشرة آلاف مقاتل، أنزلوهم بأطراف المدينة، وقاموا بضيافتهم والإشراف عليهم، وأصبحوا يفركون أيديهم فرحًا بقرب السيطرة على المدينة والقضاء على رسول الله وأصحابه وعودة المدينة لنفوذهم مرة أخرى.
أيها الناس، إن الناظر إلى هذه الجيوش يشعر بأن أيام المسلمين أمام هذا الغزو المنظّم الرهيب أصبحت معدودة، ولِمَ لا وعشرة آلاف مقاتل من فرسان العرب وشجعانهم مجهزين أحسن تجهيز، يساندهم رأس المال اليهودي المخيف والضخم، يُطْبق من كل ناحية على ألف مقاتل من المسلمين، بل أقل من ذلك بعد انسحاب المنافقين، يعتبر في ميزان القوى اليوم كارثة لا تُبقي ولا تذر، ولكن الله غالب على أمره، قال تعالى واصفًا أحوال المسلمين: إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا.
هذه الآية العظيمة تعبر في إيجاز أبلغ وأصدق تعبير عن مدى خطورة هذه الغزوة ومدى ما تعرض له المسلمون فيها من عظيم الكرب وشدة القلق والخوف والفزع الذي بلغ بهم حد الاختناق، وهذا معنى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وهذا الاختناق يعيشه إخواننا في غزة في هذه اللحظات التي نعيشها نحن هنا في أمن وسلام. ولقد تحدث القرآن الكريم من قبل عن متاعب المسلمين في كثير من المعارك التي خاضوها ضد المشركين كغزوة بدر وأحد وغيرها، ولكنه لم يذكر أن حالة الجيش النبوي قد بلغت من الكرب والشدة إلى هذه الدرجة التي تحدَّث عنها في غزوة الأحزاب هذه، مع أنه لم يكن قد جرى فيها كبير قتال، وبشهادة القرآن الكريم تعتبر هذه أخطر معركة في تاريخ الإسلام، بل هي معركة المصير ومعركة الأعصاب؛ لأن السلاح الذي واجهه المسلمون فيها هو الخوف والرعب والإرجاف والانقسام والغدر والخيانة في الساعات الحاسمة، فبينما كان المسلمون في أمر عظيم من الكرب والشدة والامتحان فإذا بحلفائهم يهود بني قريظة ـ الواقعة منازلهم خلف منازل المسلمين ـ يُعلنون في خِسةٍ ونذالةٍ كعادتهم نقضَ العهد الذي بينهم وبين الرسول، ويعلنون انضمامهم إلى جيوش الأحزاب الغازية، مستعدين لضرب مؤخرة الجيش الإسلامي الصغير، ولم يقف البلاء عند هذا الحد فقد ظهرت في تلك الساعات الرهيبة الحاسمة داخل الجيش الإسلامي نفسه قوّة ثالثة أعلنت التمرد على النبي وصحبه، وهم المنافقون الذين أخذوا ينسحبون من صفوف الجيش، متذرّعين بشتى الأعذار، تاركين النبي وصحبه في مهبّ العاصفة المدمرة، قال تعالى واصفًا حالهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا.
ويتحدث القرآن عن طبيعة المنافقين الخبيثة المخزية، طبيعة الجبن والقعود عن الجهاد، وتحريض الآخرين على الانفضاض من حول النبي وتركه والانضمام إلى صفوفهم وصفوف الأحزاب، وهذا الصنف من الناس لا ينقطع في جيل وآخر، فهو موجود دائمًا، شجاع في حالة الأمن والرخاء، وجبان صامت في الشدة والخوف، وهذا ما نراه في بعض إخواننا المسلمين من الفلسطينيين وغيرهم، لا سيما ضعيفي الإيمان الذين يلومون أهل غزة على عدم الاستسلام؛ لأنهم لا طاقة لهم بمقاومة اليهود، وميزان القوى ليس بصالحهم، ونسيَ أمثال هؤلاء ميزان ربّ العباد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي يقول: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ الآية، أي: أن المطلوب أن تُعدّ أيّ قوة تتوفّر، وليس شرطًا أن تعادل قوتهم، وإخواننا في غزة لم يعتدوا على أحد، ولم يبدؤوا الحرب ضد اليهود، فمن العار والخزي في ميزان الإسلام أن يستسلموا لهم خوفًا من قوتهم؛ لأن ربنا سبحانه يقول: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى، وذكر أن من السبع الموبقات التولي يوم الزحف، أي: إذا التقت الصفوف والتحمت بين الإسلام والكافرين فلا يجوز الهرب ولا النكوص، فلا بد من المواجهة والصبر وعدم الشكوى، وربنا سبحانه يحذّر من الهرب والتولي في كتابه الكريم حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الأمر ليس سهلاً، والإسلام عزيز برجاله المؤمنين، فمن يفر منهم يغضب الله عليه ومصيره النار عياذًا بالله. فلا بد بالثبات، وبعده تتنزل الرحمات والكرامات؛ لأن الله يقول: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|