أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتقوه باغتنامِ الأوقات ومحاسبةِ النفوس قبل مقاربَة الرّموس وفضّ الطّروس: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]؛ فيا عبد الله،
احرصْ على تقواكَ في السّرّاء والسـرِّ والإعلانِ والضراءِ
من يتقِ الرحمنَ حفَّه الفـرجُ وأمرُهُ يسرٌ فلا يخشَى الحرج
فاهنأْ بفـوزٍ أيُّهـا التَّقِـي فأنتَ بالعيشِ الهني حـريّ
أيها المسلمون، وبعد أن فصَل بهمّةٍ عاليةٍ أبناؤُنا الطلاب وفتياتنا الطالبات عن أيّام الاختبارات فإنّنا ندعو الله سبحانه أن يكلِّل جهودهم بالتوفيق والنجاح، ومساعيَهم بالفوز والفلاح، وأعمالَهم بالخير والصَّلاح. ينبلج بعد هذه الأيام الوارفة من الإجازة الصيّفية محيّاها، ويتأرج شذاها وريّاها، فالآمالُ إلى استثمارها مشرئبّةٌ رانية، والآماقُ إلى اهتبالها متطلِّعةٌ حانية، فيا بشرى لمن عمرها بالبرور والطاعات ووشّاها، ويا سُعدى لمن دبَّجها بخير الخير وغشّاها.
أيها الأحبة، وفي هذه المُلاوة الميمونة يحسُن أن يقيَّد من الأوقات نوادّها، ويُسَهَّل من حزون الإجازة مِهادها، ويُبيَّن من الأسفار كِئادها وجَوادُّها؛ ليتّخذها المجازُ منهجًا وسبيلا والحائِرُ بصيرةً ودليلا، لا سيّما وقد حلَّ موسِمُ الصيفِ بكلكله اللافح وقيظه وسمومِه الطافح، معتبرين كونَ الوقتِ هو قطبَ رَحى الحياة وأساسَها ومادتها وغِراسها، بل الوقتُ إما صديقٌ ودودٌ أو خصمٌ لدود، ومِن أمارة المقت إضاعةُ الوقت، وفي جليل قيمتِه وعظيم أهمّيته أقسَم الباري جلّ وعلا به وبأجزاء منه كالعصر والفجر والليل والنهار والضحى، ويقول سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62]، ويقول : ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)) أخرجه البخاري. ولله درّ الوزير ابن هبيرة رحمه الله حيث يقول:
والوقت أنفسُ ما عنيت بحفظه وأراه أسهلَ ما عليك يضيع
نعم عبادَ الله، إنّ الفراغ نعمةٌ جُلّى لا يقدُر قدرَها إلا من سُلِبها، فأنّى لعاقلٍ يبدِّد الوقتَ الشريف متعطِّلا ويمزِّق الزمن النفيس متبطِّلاً، فذاك الذي أضاع الفرصَ، فباء بالغُصص، واستلزم المقتَ والنَّغَص. فيا من هم في منفَسِح الفراغ، ألا من ضنينٍ بأوقاته وساعاته؟! ألا من معتبر بفوات شهوره وسنواته؟! ألا من مدّكر بمرور أيامه ولحظاته؟!
ثم انقضَتْ تلك السنونُ وأهلُها فكـأنّها وكـأنّهم أحـلامُ
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "ينبغي للإنسان أن يعرفَ شرفَ زمانه وقدرَ وقته، فلا يضيِّع منه لحظةً في غير قُربة، ويقدِّم الأفضلَ فالأفضل من القول والعمل". فنافسوا الزمان وناقشوا النفوس، والسعيد من اغتنم زمنًا نهايتُه الزمن، وانتهب عمُرا يا قرب انقطاعه، ولا فضَّ فو القائل:
أمسِ الذي مَرّ على قُربـه يعجَز أهلُ الأرضِ عن ردِّه
وكلّ يومٍ من الأيام يعجبُنا فإنّما هو نقصانٌ من العمرِ
إخوةَ الإيمان، ومع تطوّر أنساقِ الحياة المعاصِرة وامتدادِ آفاق الناس في التوفّر على جوانب الفُسحة والمرفِّهات والتماس حظّ من الترويح والمبهجات فقد غدا فقهُ الترويح والتسلية وتأصيلُ الترفيه والتسرية واستثمار أوقات الفراغ ضرورةً حيوية وحاجة حياتية في هذا العصر المثخَن بالأعباء الثّقال الرازِح تحت نير الأعمال والأشغال؛ حيث إنّ الاستمرار في الجهد والعمل مورث للسآمة والملَل والنفور والكلل، ومِن ثَم تفتُر الهمة، وتسترخي العزيمة، وتصبح العلل للإنسان لزيمة، فالاستجمام والتنقّل والسفر والإيضاع يجدّدان النشاط، ويبعثان على استئناف التألّق والاغتباط.
إنّ العُلا حدَّثتني وهي صادقةٌ فيما تحدِّث: أنّ العزّ في النُّقَل
فيا أحبتنا الكرام، إن شريعةَ الإسلام القائمةَ على جلب المصالح ودرءِ المفاسد المبنيّةَ على رفع الحرج ومراعاةِ التيسير ومجافاةِ التشديد والعنت والتعسير لم تحبسِ الفطرة النقية ونوازعَها المنضبطة السنية دون الترويح والانطلاق، ولم تلجِم [أمانيَ] النفس ورغائبها البريئة وتدعها في أوهاق، قال تعالى مخبرا عن ترويحِ إخوة يوسفَ عليه السلام: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف: 12]، قال أهل العلم: "المراد بذلك: الاستجمام ورفع السآمة، وهو مباح في كافّة الشرائع ما لم يكن دأَبا"، وقال ابن جماعة رحمه الله: "لا بأسَ أن يريحَ الإنسان نفسَه إذا خاف مللا"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن استعان بالمباح الجميلِ على الحقّ فهذا من الأعمال الصالحة".
معاشر المسلمين، إنّ غياب التأصيل الشرعيّ لفقه الترويح ومقاصده ومآلاته مع فُقدان أصول الإفادة من أوقات الفراغ والإجازات لَيؤدي بالأمم والمجتمعات إلى مهاوي الخمول والجمود ويَهماءِ الانحراف والجحود، وفي ذلك حتمًا تعطيلٌ لملكات وقدرات يلزَم استثمارها ومواهبَ وطاقات من الأهمية قدحُ زنادها واستنفارها، فالمنهج الترويحي الإسلاميّ يستقبل فراغ الأوقات والإجازات بالبِشر والطموح والأمَل، ويكره لأفراده التسيّب والسبهللة والكسل؛ لأنّ الوهن الروحي والفكريّ والكلال الوجدانيّ والفطري يجعل من المرء سيئَ التفكير عليل التدبير، لا يلوي إلا على الترويح السلبيّ القميءِ الهابط المتأسِّن في بؤر المهانة والإسفاف وحنادِس الإباحيّة والانحلال والشّهوات، ويغدو كمَن باعوا أخراهم بدنياهم وأقواتَ يومهم بأوقاتِ يومهم.
فيا رعاكم الله، هلا استقرأتم التأريخ بعينٍ فاحصةٍ وبصيرةٍ ماحصة؛ فللحقيقة بلَجٌ ونورٌ يشعّ من خلال السطور مهما كان غيهب الأحوال حالكا، فما من قومٍ انخرطوا في سلك الاسترخاء والدَّعَة والتخاذل وركنوا إلى التكاسُل إلا تصرّمتْ فيهم شموس الفضائل، وتضرّمتْ فيهم الشرور والغوائل، وأصبحوا نُهبةً للتسفُّل والانحطاط وقالةً للزراية والإسخاط.
حاول جَسيمـات الأمورِ ولا تَقُلْ: إن المحـامـدَ والعُـلا أرزاق
وارغبْ بنفسِك أن تكـونَ مقصِّرا عن غـايةٍ فيها الطِّلابُ ِسباق
إنّ الترويح المبرور الهادفَ إلى جلب الخيور ودفع الشرور ودعمِ العلاقات بين الأفراد والبيئات والأواصر بين الأمم والجماعات على أساسٍ من التراحُم والتعاطف والتلاحُم والتلاطُف بمتنوِّع الضروب وشتى الوسائل والطرائق لهو سمةُ رقيّ المجتمع واستمساكه بمبادئه، كيف لا ومنتهاه الشعور بالمسرّة والحبور والأنس بمرضاة العزيز الغفور؟!
أمّة الإسلام، ومِن أجل ذلك التأصيل السامي للترويح ندَب الإسلام للرَّحلات الباصرة والسياحات الواسعة وامتطاء صهوة البراري والقِفار والأجواءِ والبحار في أسفارٍ ماتعةٍ بريئة.
سافِرْ تجدْ عوضًا عمّن تفارقُه وانْصَبْ فإنّ لذيذَ العيشِ في النَّصَب
لا للسفر للهو والعبث والمباهاةِ وتزجِية الفراغ واقتراف المحرمات وانتهاك المبادئ والأخلاقِ والقيم، فكم من مصطافٍ خارِجَ وطنه قلَب ظهر المجنّ وأظهر من البوائق ما أجنّ. نعم للسفر للتفكّر في ملكوتِ العزيز الغفار والاعتبار والادّكار والاتِّعاظ بأحوال الأمَم كيف تقلّبت بين ازدهارٍ وانحدار واستقصاء الدروس والعبر من أخبار من غَبر؛ لأن العقل والروح لا يستمدّان تألّقهما ونفاذَهما من ركام الثُّواء والتلكّؤ، بل لا بدّ أن يتعدَّيا رحاب الملكوت المديدة وعصورَ الحياة المتطاولة العديدة، يشهد بذلك أكمل الهدي هدي محمد : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، فقد كانت أوقاته خيرَ مثالٍ يُقتَدى وترويحه أزكى دليلٍ يحتَذى توسّطًا واعتدالا وسموًّا وكمالاً، فقد كان ـ بأبي هو وأمي ـ أظهرَ حزمًا ولطفًا، وأوفاهم أُنسًا وعطفا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بهدي نبيكم ، واقتفوا سنّته عليه الصلاة والسلام؛ تفوزا وتغنموا وتفلحوا وتنعموا.
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 137، 138].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين. أقول هذا القول من غير حولٍ لي ولا طول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كلّ خطيئةٍ وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.
|