أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، أَبنَاؤُنَا فَلَذَاتُ أَكبَادِنَا، وَهُم مَاءُ أَعيُنِنَا وَتَاجُ رُؤُوسِنَا، نَتعَبُ لِيَرتَاحُوا، وَنَشقَى لِيَنعَمُوا، وَنَبذُلُ الغَاليَ لِنَرَاهُم في حَيَاتِهِم نَاجِحِينَ، وَنُضَحِّي بِالنَّفِيسِ لِيَكُونُوا في مُستَقبَلِهِم مُنتِجِينَ وَلِمُجتَمَعِهِم نَافِعِينَ، وَإِذَا كُنَّا نُعطِيهِم مِنِ اهتِمَامِنَا في سَائِرِ العَامِ حَظًّا وَافِرًا وَنَحُوطُهُم بِرِعَايَتِنَا، فَإِنَّ لأَيَّامِ الامتِحَانَاتِ مِنَ الهَمِّ أَكبَرَهُ وَأَثقَلَهُ؛ إِذ يَعِيشُ جَوَّهَا الكَبِيرُ مِنَّا قَبلَ الصَّغِيرِ، وَتَستَنفِرُ لها الأُسَرُ كَامِلَ القُوَى، وَتُهَيِّئُ في أَثنَائِهَا لِلأَبنَاءِ جَمِيعَ المُستَلزَمَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَتُجَهِّزُ لهم أَمَاكِنَ القَرَاءَةِ وَالمُذَاكَرَةِ، وَتُطَيِّبُ لهمُ المَآكِلَ وَتُنَوِّعُ المَشَارِبَ، وَتَنظُرُ مَا يَشتَهُونَهُ فَتَجلِبُهُ وَمَا يُؤذِيهِم فَتُبعِدُهُ.
وَإِنَّهُ وَمَعَ كُلِّ مَا يُوَفَّرُ لِلأَبنَاءِ مِن مُتَطَلَّبَاتٍ خَارِجِيَّةٍ ظَاهِرِيَّةٍ، فَإِنَّ ثَمَّةَ رَغَبَاتٍ دَاخِلِيَّةً ضَرُورِيَّةً، قَلَّ مَن يَنتَبِهُ لَهَا مِنَ الآبَاءِ أَو يُعطِيهَا حَقَّهَا، ذَلِكُم أَنَّ وَاقِعَ الاختِبَارَاتِ يُجبِرُ الأَبنَاءَ عَلَى البَقَاءِ في البُيُوتِ لا يَخرُجُونَ مِنهَا إِلاَّ لِصَلاةٍ أَو أَمرٍ ضَرُورِيٍّ، وَهُوَ مَا يَرَونَهُ تَقيِيدًا لِلحُرِّيَّةِ غَيرَ مَألُوفٍ، وَيَعُدُّونَهُ سِجنًا غَيرَ مَرغُوبٍ فِيهِ، وَمِن ثَمَّ تَتَغَيَّرُ نُفُوسُهُم وَتَفسُدُ أَمزِجَتُهُم، وَتَضِيقُ صُدُورُهُم وَتَسُوءُ أَخلاقُهُم، وَهُوَ الأَمرُ الَّذِي يَستَدعِي مِنَ الآبَاءِ إِعَادَةَ النَّظرِ في بَرنَامَجِهِم في أَثنَاءِ الاختِبَارَاتِ، وَمُرَاجَعَةَ طَرِيقَتِهِم في إِعطَاءِ النَّصَائِحِ وَالتَّوجِيهَاتِ، مُرَاعَاةً لأَحوَالِ أَبنَائِهِمُ النَّفسِيَّةِ، وَإِشبَاعًا لِرَغبَاتِهِمُ الدَّاخِلِيَّةِ، وَحِرصًا عَلَى مُرُورِ هَذِهِ الفَترَةِ الحَرِجَةِ بِسَلامٍ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَرنَامَجِ الأَبِ في أَثنَاءِ الاختِبَارَاتِ فَإِنَّهُ يُستَحسَنُ أَن يُقَلِّلَ الخُرُوجَ مِنَ المَنزِلِ، وَأَن يُطِيلَ البَقَاءَ قَرِيبًا مِن أَبنَائِهِ، فَإِنَّ في ذَلِكَ فَوَائِدَ جَمَّةً وَإِيجَابِيَّاتٍ كَثِيرَةً، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ إِحسَاسُ الأَبنَاءِ أَنَّ أَبَاهُم يَعِيشُ هَمَّهُم وَيُشَارِكُهُم فِيمَا هُم فِيهِ لَكَفَى، فَكَيفَ إِذَا عَرَفَ الوَالِدُ أَنَّ في وُجُودِهِ أَمَامَ أَبنَائِهِ ضَمَانًا لَعَدَمِ تَفَلُّتِهِم مِنَ المُذَاكَرَةِ، وَقَطعًا لاشتِغَالِهِم بِالجُزئِيَّاتِ وَالهَامِشِيَّاتِ الَّتي كَثِيرًا مَا يُقَطِّعُ المُرَاهِقُونَ بها أَوقَاتَهُم دُونَ فَائِدَةٍ، مِن مُشَاجَرَةٍ مَعَ إِخوَانِهِمُ الآخَرِينَ، أَوِ انشِغَالٍ بِالجَوَّالاتِ وَمُشَاهَدَةِ القَنَوَاتِ، أَو إِغرَاقٍ في التَّفكِيرِ وَسِبَاحَةٍ في أَحلامِ اليَقَظَةِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِطَرِيقَةِ النُّصحِ وَالتَّوجِيهِ فَجَدِيرٌ أَن تَكُونَ تَربَوِيَّةً أَبَوِيَّةً مُشفِقَةً، بِأُسلُوبٍ إِيجَابِيٍّ تَشجِيعِيٍّ، يَبعَثُ الأَملَ وَيَزرَعُ الثِّقَةَ، وَيَرفَعُ الهِمَمَ وَيُحَفِّزُ القُدُرَاتِ، يَزِينُهُ اللِّينُ وَالرِّفقُ، وَيُجَمِّلُهُ المَدحُ وَالثَّنَاءُ، وَلا تُكَدِّرُهُ كَلِمَاتُ التَّخوِيفِ وَالتَّهدِيدِ، وَلا نَبَرَاتُ الفَضَاضَةُ وَالقَسوَةُ، وَلا تَشُوبُهُ عِبَارَاتُ اللَّومِ وَالزَّجرِ وَالتَّحطِيمِ، فَإِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونَ في شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ، وَقَد قَالَ سُبحَانَهُ لِنَبِيِّهِ : فَبِمَا رَحمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضُّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِرْ لَهُم وَشَاوِرْهُم في الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ، وَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: خَدَمتُ رَسُولَ اللهِ عَشرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لي لِشَيءٍ صَنَعتُهُ: لِمَ صَنَعتَهُ؟ وَلا لِشَيءٍ تَرَكتُهُ: لِمَ تَرَكتَهُ.
وَإِنَّ مِن تَجَارِبِ بَعضِ الآبَاءِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ وَالَّتي تَدُلُّ عَلَى وَاسِعِ حِكمَةٍ وَبُعدِ نَظَرٍ أَن يُلزِمُوا أَنفُسَهُم العَيشَ بِنَفسِ النَّمَطِ الَّذِي يَعِيشُهُ الأَبنَاءُ، وَذَلِكَ بِاتِّخَاذِ كِتَابٍ مُفِيدٍ لِلقَرَاءَةِ فِيهِ أَمَامَهُم، وَالإِمسَاكِ بِالقَلَمِ عَلَى مَرأًى مِنهُم لِتَسجِيلِ الفَوَائِدِ وَتَقيِيدِ الشَّوَارِدِ، وَفي هَذَا مِنَ النَّفعِ لِلوَالِدِ وَالخَيرِ لأَولادِهِ شَيءٌ كَثِيرٌ، فَالوَالِدُ يَقضِي وَقتَهُ فِيمَا يَنفَعُهُ، وَالوَلَدُ وَهُوَ يَرَى أَبَاهُ يَقرَأُ وَيَكتُبُ، يَجِدُ نَمُوذَجًا حيًّا أَمَامَ نَاظِرَيهِ لِمَا يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهِ؛ ممَّا يُغني الأَبَ عَن كَثِيرٍ مِنَ النَّصَائِحِ وَالتَّوجِيهَاتِ البَارِدَةِ، وَالَّتي يُقَلِّلُ مِن شَأنِهَا في نَفسِ ابنِهِ أَنَّهُ لا يَرَى لها فِيمَن حَولَهُ مِثالاً يَحتَذِيهِ.
أَلا فَلْنَحرِصْ عَلَى أَبنَائِنَا مِن هَذَا الجَانِبِ أَيُّهَا الإِخوَةُ، وَلْنَكُنْ خَيرَ عَونٍ لهم عَلَى اجتِيَازِ اختِبَارَاتِهِم بِنُفُوسٍ مُطَمَئِنَّةٍ وَصُدُورٍ مُنشَرِحَةٍ، وَلْنُهَيِّئْ لهمُ الجَوَّ العَاطِفِيَّ المُنَاسِبَ، وَلْنَحتَسِبِ الأَجَرَ في الجُلُوسَ مَعَهُم، وَلْنَأخُذْ في الاعتِبَارِ أَنَّهُ لا بَأسَ بَلْ يَنبغِي أَن يَتَخَلَّلَ أَوقَاتَ الاستِذكَارِ وَقَفَاتٌ تَكُونُ كَالاستِرَاحَةِ لهم، يَتَنَاوَلُ فِيهَا الجَمِيعُ شَيئًا ممَّا لَذَّ وَطَابَ مِن طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَيَتَبَادَلُونَ فِيهَا بَعضَ الطَّرَائِفِ المُبَاحَةِ وَالمُلَحِ، وَتُجَمُّ النُّفُوسُ فِيهَا وَيُرَوَّحُ عَنهَا بِشَيءٍ ممَّا يُذهِبُ المَلالَ وَيَدفَعُ الكَلالَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَممَّا يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ، ذَلِكُمُ الوَقتُ الضَّائِعُ الَّذِي يَعقُبُ خُرُوجَ الأَبنَاءِ مِنهَا، فَإِنَّهُ مِن أَخطَرِ الأَوقَاتِ وَأَحرَجِهَا؛ إِذْ تَتَهَيَّأُ فِيهِ الفُرَصُ لأَهلِ الشَّرِّ بِجَمِيعِ اتِّجَاهَاتِهِم لاقتِنَاصِ الأَغرَارِ وَالإِضرَارِ بهم، في عُقُولِهِم وَأَعرَاضِهِم، وَفي أَفكَارِهِم وَأَجسَادِهِم، نَاهِيكُم عَمَّا يَنشَأُ مِنَ الحَوَادِثِ بِسَبَبِ السُّرعَةِ الجُنُونِيَّةِ، أَو مَا يَتَكَوَّنُ مِن مُشكِلاتٍ وَمُنَاوَشَاتٍ بَينَ الطُّلاَّبِ، فَرَحِمَ اللهُ أَبًا تَابَعَ أَبنَاءَهُ وَعَرَفَ أَوقَاتَ خُرُوجِهِم، وَحَرِصَ عَلَى أَن يَعُودُوا إِلى البَيتِ مُبَكِّرِينَ؛ حِفظًا لهم مِنَ الأَذَى، وَكَفًّا لأَذَاهُم عَنِ الآخَرِينَ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ.
|